ليس تهرباً أو هروباً من المشاركة في الكتابة عن مجزرة غزة. بل لأن ما يجب أن يقال في الفصل الأول من هذه المسرحية الدموية قد قيل وليس هناك ما يمكن إضافته سوى إحساس شخصي آني وهو أنني اليوم، مثل كثيرين من أمثالي المصدومين، في حالة نفسية بتّ معها أخجل من المجاهرة بأنني عربي القومية.
* * *هبة طائرات «الميغ» الروسية للجيش اللبناني خلطت أوراق السياسة اللبنانية محلياً وإقليمياً ودولياً. على الصعيد المحلي، فإن المفاجآت قد أدارت رؤوس الجميع بدءاً بـ«حزب الله» والقوات اللبنانية وبقية الأحزاب الموالية والمعارضة. ولهذه الهبة حكاية طويلة بعضها بات معروفاً لكن ليس بتفاصيله الدقيقة والبعض الآخر تحوّل إلى علامات استفهام وأسئلة كبرى مازالت حائرة تفتش عن أجوبة لها. هذه الكلمات هي محاولة لسبر غور النوايا بواسطة طرح ما عُرف من الوقائع الخفية تمهيداً للوصول إلى أصل وفصل هذه الحكاية. والتفاصيل العسكرية الواردة والتي سترد في هذا المقال وما سيتبعه مأخوذة من كبار القادة العسكريين اللبنانيين الذين مازالوا في الخدمة، ومن دون ذكر أسمائهم بناءً على طلبهم.دعوة وزير الدفاع اللبناني إلياس المرّ لزيارة موسكو رسمياً وُجهّت في عام 2007، أي قبل نشوب حرب مخيم نهر البارد في شمال لبنان بين الجيش اللبناني والقوى الأصولية المتمثلة في منظمة «فتح الإسلام». في ذلك الوقت كان الاعتقاد سائداً أنها ليست أكثر من دعوة «علاقات عامة» تحاول موسكو من خلالها أن تزيد ارتباطها بلبنان في المجالين السياسي والعسكري. ذلك أن العاصمة الروسية بدأت تشعر بضعف النفوذ الأميركي في المنطقة، خصوصا في لبنان فوجدت أن المجال بات مفتوحاً لملء الفراغ ومحاولة قد تنجح في تحقيق حلم طالما راود الروس، من القياصرة إلى شيوعيي الكريملين، بالوصول إلى ما يسميه الاستراتيجيون «المياه الدافئة» في منطقتنا. بالإضافة إلى رغبة روسيا- بوتين في استعادة النفوذ الروسي الذي زرعه العهد الشيوعي طوال الحقبة الطويلة الماضية عن طريق رفع شعارات «المصالح المشتركة» وليس تصدير الإيديولوجيا الشيوعية. إن لبنان في حلقات الصراع الحالية يشكل نقطة استراتيجية مهمة لموسكو وواشنطن وباريس بالرغم من مساحته الصغيرة، حيث صار اليوم يشكل نقطة تجاذب بين هذه القوى.قال لي أحد كبار القادة العسكريين اللبنانيين الذين يتعاطون مع الشؤون الاستراتيجية: نحن على معرفة بالنوايا الروسية من وراء توجيه الدعوة لوزير الدفاع اللبناني. وكان المفروض أن تـُلبى هذه الدعوة في حينه، أي في 2007. وقد اتـُخذ قرار سياسي- عسكري لبناني بذلك. لكن أحداث نهر البارد وما تبعها من أزمات حالت دون ذلك إلى أن هدأت العاصفة وتمّ انتخاب ميشال سليمان رئيساً توافقياً وتحسّنت العلاقات مع سورية. والحقيقة- أضاف الضابط الكبير- أننا نسينا في غمرة الفرحة بزوال العاصفة السياسية والأمنية الدعوة الروسية إلى أن ذكـّرتنا بها موسكو مرات عدة عبر سفيرها في لبنان، وعبر القناة الخاصة الموجودة بيننا وبينهم. وبينما كنا ننظر في السابق إلى الدعوة الروسية على أنها دعوة علاقات عامة، بدأت نظرتنا تختلف. فالجيش بعد حرب نهر البارد كان بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل لوجيستية سريعة، تمكنه من مواجهة أحداث شبيهة بـ«نهر البارد» في حال حدوثها. وهكذا انتقل الإصرار على تلبية الدعوة من موسكو إلى بيروت لعل موسكو تسدّ بعض الفراغات المهمة في تسليح الجيش دون الإخلال بالتوازن بين السلاح الغربي المتواضع والموجود بين أيدينا، والسلاح الشرقي المطلوب لمواجهة ما تأتي به رياح الأزمات. واتـُخذ قرار سياسي- عسكري آخر بذلك بدأنا نعمل بوحيه».كانت القيادة العسكرية اللبنانية بحاجة إلى معرفة نوايا موسكو فيما يتعلق باستعدادها لتزويد لبنان بما يحتاجه من «سلاح التوازن». وهذا العمل لا يمكن القيام به بشكل مباشر وبصورة رسمية. لذلك جرى تكليف سعد الحريري، الذي تربطه علاقات اقتصادية وتجارية كبرى بموسكو، القيام بهذا الدور. وتلقف الحريري هذا التكليف بترحيب بالغ، فهو يعطيه من جهة دوراً مميزاً على الصعيد الوطني يزيد من رصيده الشعبي. ومن جهة أخرى يفسح له المجال في ردّ التحية لواشنطن التي أظهرت نواياها بالتخلي عن أصدقائها القدامى بعد انتخاب أوباما. هذا بالإضافة إلى أن النجاح في المهمة يمنح فرصة تجارية وكسب مادي مشروع عن طريق «وساطة» شراء السلاح بطريقة مشروعة.وهذا ما حصل بالفعل وتوجه الحريري إلى موسكو لاتمام مهمة جس النبض الروسي مصحوباً بآلته الإعلامية التي قالت كل شيء ولم تخفِ إلا بعض الأمور المتعلقة بالنوايا. ونجح الحريري في مهمته فأعلن من موسكو بعد مقابلته أصحاب القرار فيها أن روسيا على استعداد لتزويد لبنان بكل ما يحتاجه لتقوية الجيش دفاعياً وليس هجومياً. ولم يدخل الحريري في تفاصيل الحاجة العسكرية اللبنانية، بل ترك ذلك لوزير الدفاع.هنا تركزت أنظار الغرب، خصوصا الولايات المتحدة على لبنان. إن دخول لبنان مجال التسليح الشرقي من شأنه أن يقضي على ما تبقى من نفوذها، ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة العربية برمتها، لاسيما بعد ازدياد التململ غير المسبوق من صانعي القرار العربي من سياسة بوش، وقناعتهم بأن العصر الأميركي في المنطقة في طريقه إلى التلاشي. ومن هنا جاءت سلسلة زيارات أميركية سياسية وعسكرية إلى بيروت بدءاً من ممثلي وزارة الخارجية ومروراً بزيارة مدير الـ CIA السرية وانتهاءً بزيارة بترويس قائد القوات الأميركية في منطقة الشرق الأدنى. وكان الهدف الأميركي من وراء هذه الزيارات إعادة الإمساك بزمام المبادرة في لبنان لمنعه من الذهاب بعيداً في علاقاته مع موسكو التي بدأت تشكل الهاجس الأكبر للسياسة الخارجية الأميركية.ما لفت النظر في هذا المجال الزيارة القصيرة التي قام بها وزير الدفاع اللبناني إلى البحرين حيث اجتمع بنظيره الأميركي روبرت غيتس لساعات عدة، وذلك قبل أن يحمل حقيبته ويتوجه إلى موسكو. هذه «الزيارة الغامضة» التي لم تتحدث عنها أجهزة الإعلام الموالية ولا المعارضة كانت لغزاً لم يُحل إلى الآن. كان من المفروض أن يأتي روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي الحالي والمعين في إدارة أوباما الجديدة إلى بيروت، لكن لأسباب ماتزال غير معروفة «استدعى» وزير الدفاع إلى البحرين واجتمع به وذلك قبل 48 ساعة من بدء زيارته إلى روسيا التي دامت أسبوعاً كاملاً. وقد ازداد هذا اللغز غموضاً عندما «تجاهل» وزير الدفاع اللبناني الحديث عن نتائج اجتماعه بنظيره الأميركي إلى مجلس الوزراء كما تقضي بذلك الأصول، كما امتنع عن الحديث عنها حتى إلى كبار قادة الجيش اللبناني. وازداد اللغز غموضاً عندما لم تبادر المعارضة إلى طرح الموضوع داخل مجلس الوزراء أو خارجه، وكأن شيئاً لم يكن مما يدلّ على وجود اتفاق مبدئي على عدم طرح هذا الموضع قبل عودة الوزير اللبناني من موسكو ومعرفة مدى جدية روسيا في مساعدة تسليح الجيش اللبناني. كان للمعارضة هدف من وراء هذا الصمت الذي قابلت به اجتماع وزيري الدفاع اللبناني والأميركي وهو تسهيل الطريق لدخول روسيا إلى مجالات التسليح في لبنان تمهيداً لإشراكها مستقبلاً في صناعة وحماية القرارات الإقليمية الاستراتيجية في مرحلة مليئة بالضباب الكثيف والغموض اللامتناهي. أما هدف الموالاة فكان تسهيل مهمة سبر أغوار النوايا الروسية لمعرفة المدى الذي تستطيع أن تذهب إليه في لعبة الشرق الأوسط الجديدة وقواعدها المستحدثة. والمفارقة الغريبة والطريفة معاً أن واشنطن التقت مع المعارضة في السعي إلى كشف النوايا الروسية، كل على طريقته الخاصة، وربما هذا الأمر يشكل مفتاح لغز اجتماع المرّ وغيتس في البحرين قبل حوالي 48 ساعة من بدء زيارته الرسمية إلى موسكو.التفسير اليتيم الذي تلفظ به وزير الدفاع اللبناني حول لقائه بنظيره الأميركي في البحرين قبل زيارة موسكو جاء على لسان والده ميشال المرّ لعدد محدود من أصدقائه عندما قال إن سبب الاجتماع هو اطلاع الأميركيين وأخذ الضوء الاخضر على نية لبنان في إدخال السلاح الروسي إلى الترسانة اللبنانية دون الإخلال «بالتوازن العقائدي»، وهو تعبير عسكري لبناني يعني تنويع السلاح. ولابدّ من التذكير أن ميشال المرّ وابنه وزير الدفاع هما من حصة رئيس الجمهورية ميشال سليمان وتحت حمايته السياسية.* كاتب لبناني
مقالات
الروس وصلوا...(1- 2)
31-12-2008