شرق واستشراق متجدد!
ربما سيبقى اسم المفكر إدوارد سعيد (1935-2003) حاضراً ما حضر كتابه المرجع «الاستشراق- Orientalism»، ومرد ذلك كون الكتاب يشكّل علامة فارقة على طريق الكتابات الاستشراقية. فمنذ صدور الكتاب قبل نحو ثلاثين عاما، ولم يزل يثير من الاهتمام والجدل الشيء الكثير. فمفهوم الاستشراق من المنظور الغربي الذي قدمه إدوارد سعيد، بقدر ما شكّل صدمة لدى الدوائر الغربية، لصدقه وجرأة طرحه ومخالفته لمقولات الفكر الاستشراقي التاريخية، قدّم صورة صادقة عن الطريقة التي يفكر وينظر بها الغربيون الى دول الشرق، وبالتالي الطريقة التي يتعاملون بها مع شعوبها.
إن شعوب «شرقية» متحضرة تعيش وتنتمي إلى عصرها الراهن فكرة لا يريد الإنسان الغربي تصديقها، أو في أحسن الأحوال الالتفات والنظر إليها. فمنذ بدء كتابات الاستشراق، نقل المستشرقون فكرة، أقل ما يُقال عنها انها غير صادقة، هي من صنع خيالهم ورغباتهم أكثر ما تكون من صنع الواقع. هذه الفكرة التي خلقوها وزيّنوها وسوّقوا على أثرها شرقاً خرافياً يخصهم، هي الفكرة التي نبتت في عقول ومخيلة الغربيين، وهي الفكرة ذاتها التي انتقلت من جيل إلى جيل، وهي الفكرة التي تأبى على التغيير، وتقاوم بضراوة أي فكر آخر يرغب في زحزحتها أو تغيير بعض صورها. وأخيراً هي الفكرة التي دخلت عليها صورة المسلم العربي الإرهابي القاتل بلحيته المتدلية ولفة رأسه القذرة. الإنسان الغربي يحمل عن الشرق ما توارثه من أفكار وصور، وهو في تعامله مع إنسان هذا الشرق، المتخلف والكاذب والمخادع والجنساني والقاصر عن التفكير الصحيح، يبحث عما يؤكد مصداقية هذه الأفكار وصدق هذه الصور. وإذا كانت دول الشرق تعيش عصراً راهناً يتمتع بكل مقومات الحداثة المادية، ويختلف تماماً عما كتبه المستشرقون عنها، فإنه لا يطيب للإنسان الغربي، إلا أن يرى الشرق من زاوية أخرى تدغدغه، وتستند إلى موروث الكتابات الاستشراقية، التي تقول بقصور عقلية الإنسان الشرقي، وعجزه عن إدارة شؤونه، ومجاراة الواقع المحيط به. وبهذا فإن منطق الاستشراق الحديث على ألسنة الغربيين إذا ما تغير عن الكتابات الاستشراقية السابقة وكان منصفاً للشرق، فسينطق قائلاً: صحيح ان دول الشرق تعيش عصراً مختلفاً عن العصر الذي صوره الرحالة المستشرقون، لكن عقلية شعوبها مازالت هي ذاتها العقلية القديمة البائسة والعاجزة عن إدارة شؤونها، والداعية إلى تدخل الغربي للنظر في الأصلح إليها. كنت خلال الأسبوع الفائت في زيارة لأحد المجمعات التجارية الحديثة في الكويت، وفي أحد المحال التي تفرد مساحة لزبائنها للرسم والتمتع بمنظر البحر، جلست أنا وعائلتي، وصادفني ان كان الجالس إلى جانبي رجلاً أميركياً أربعيني وابنه الذي لم يتجاوز العاشرة. كانا مندمجين في الرسم، وحين تطلعت إلى لوحتهما وجدت أنهما رسما جملاً وخيمة وكثبان رملية ورجلاً ملثماً، وفي أقصى الصورة رسما أبراج الكويت. أثارتني الصورة، واستحضرت على أثرها فكرة الاستشراق كما كتبها إدوارد سعيد، وحين سألت الرجل: «هل رأيت في الكويت جملاً وخيمة». أجاب ببرود: «في إحدى رحلاتنا إلى البر صادفنا جملاً». لم أود الخوض بنقاش مع الرجل، فلقد فهمت منه أنه أمضى قرابة سنتين في الكويت وأنه سيعود إلى وطنه في الفترة القادمة، لذا يهمه أن يأخذ معه ما علق بذهنه عن الكويت. الصورة ذاتها القديمة التي رسمها أجداده المستشرقون حين زاروا الشرق في القرون الماضية، وصوروه كما يحلو لهم، مجافين الحقيقة والواقع، ومؤكدين لأنفسهم صورة لا يرغبون في التزحزح عنها.