ثلاثون عاماً من سلام فاتر
عاشت معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية ثلاثين عاماً، لكنها تضمر وتنزوي وتفقد قدرتها على المحاججة والمباهاة، والأهم من ذلك أن إسرائيل لم تظهر بعد على الخرائط المعلقة في فصول التلاميذ المصريين.في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين عاماً طلب إلينا ناظر مدرستنا الابتدائية، الواقعة في أحد أحياء شرق القاهرة، أن نخرج في «مسيرة» للهتاف لـ«بطل الحرب والسلام» الرئيس السادات، والتعبير عن تأييدنا وبهجتنا لتوقيع «اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية»، التي قيل وقتها إنها لن تعيد أراضينا المحتلة في سيناء فقط، لكنها أيضاً ستدخلنا عصر الرخاء، وستيسر استرداد كل الأراضي العربية المحتلة.
كنت في العاشرة من عمري، تلميذاً بالصف الرابع آنذاك، لكنني كنت أعرف جيداً أن عماً لي وابن عمة قد استشهدا في حربين مع إسرائيل، وأن شقيقاً لهذا الأخير قد أُسر وعُذب في حرب أكتوبر 1973.وككثير من زملائي وأقراني، فقد كانت أمنيتي أن أكون ضابطاً بالجيش، وأن تتاح لي الفرص لقتال تلك الدولة العدوانية «التي أدمت أسرتي وأذلت وطني»، بينما ظلت مشكلتي الكبرى تتلخص في محاولة معرفة موقعها تحديداً على الخريطة المعلقة على جدار الفصل، حيث لم تكن إسرائيل تظهر أبداً، وهو الأمر الذي سبب لي إشكالاً دائماً؛ إذ «كيف يمكنها مهاجمتنا على هذا النحو دون أن تكون ملاصقة لحدودنا؟».على أي حال فقد رفضت حمل صورة تضم الرئيسين كارتر والسادات والسير بها مع زملائي في الشوارع المحيطة بالمدرسة هاتفين فرحاً بـ«السلام»، متعللاً بأسباب كثيرة ليس منها ما يشير إلى «موقفي السياسي»، لكن مدرس الحساب الأستاذ إسماعيل تكفل بتعديل توجهاتي بضربي بالعصا أربع مرات مؤلمة، وافقت على إثرها على الانضمام لـ«المسيرة».لم يكن من الصعب أن نقنع الناظر وزمرة المدرسين المجبرين على تنفيذ الأوامر بأننا سنؤدي الدور جيداً، فقد حرصنا على الانتظام والتراص والهتاف حتى غبنا عن أعينهم جميعاً، وعند أول منحنى في الطريق ألقينا جميعاً بما نحمله من صور وزعت علينا، وراح كل منا إلى مقصده.في السادس والعشرين من مارس الجاري حلت الذكرى الثلاثون لهذه المعاهدة، ومعها تذكرت الألم الناشئ عن ضربات عصا الأستاذ إسماعيل، والواجب الثقيل المتمثل في حمل صورة كارتر والسادات والسير بها عبر الشارع هاتفاً بعبارات لا أذكر عنها سوى كونها سخيفة.ثلاثون عاماً مرت على المعاهدة التي تعرضت لأكبر قدر من التلطيخ والتشكيك في تاريخ أمتنا الحديث، دون أن تقنع الجميع بوجاهتها وقابليتها للاستمرار، ودون أن يقدم أحد المعترضين عليها بديلاً لها أكثر واقعية وجدوى وتكاملاً.وعلى عكس ما يروج كثيرون، فإن أي تقص موضوعي لتوجهات الشعب المصري حيال المعاهدة اليوم لن يفضي إلى نتيجة واضحة تطالب بإلغائها أو الانخراط فوراً في حرب مع إسرائيل، بل قد تجد ميلاً واضحاً إلى التمسك بها، خصوصاً في ما يتعلق بتثبيت إنهاء حال الحرب ومحاولة حل مشكلات المنطقة عن طريق التفاوض.لكن الموضوعية ذاتها تقتضي الإقرار بأن قليلين جداً في مصر يمكنهم أن يؤيدوا تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو توسيعها على الصعد الشعبية خصوصاً؛ إذ ينظر هؤلاء إلى السفير الإسرائيلي بالقاهرة، وموظفي سفارته، والعلم المرفوع فوقها، والزيارات المتبادلة بين المسؤولين من البلدين، على أنها «شر لا بد منه»، وأنها لن تمس البغض العميق الراسخ للممارسات العدوانية للدولة العبرية على مر تاريخها.عبر مسؤولون إسرائيليون عديدون عن إحباطهم لأن مصر الرسمية ألغت الاحتفال بذكرى المعاهدة، ووصفت صحيفة «جيروزالم بوست» العبرية في افتتاحيتها الذكرى بالـ«كئيبة»، ولم تقم تل أبيب إلا احتفالات محدودة، حضر أحدها السفير المصري هناك، فانتهز الفرصة وانتقد الاستيطان بدلاً من أن يتبادل الأحاديث الودية. لم يزر مبارك إسرائيل حتى اليوم، ولا يبدو أنه سيزورها، خصوصاً أنه يرى أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة «كشف عن مدى هشاشة عملية السلام أمام دورات العنف»، ولا يبقى من إشارات الود سوى أقل من 300 مليون دولار من التبادل التجاري، ونحو 700 مستثمر من الجانبين يقيمون مشروعات دون المتوسطة، وحركة سياحة محدودة، وصادرات غاز مثيرة للجدل واليقين باستمرارها المزعزع.صحيح أن إسرائيل أوقفت ممارساتها العدوانية الظاهرة بحق مصر منذ تم توقيع تلك الاتفاقية، بل حتى منذ اتفاقية فك الاشتباك الأولى في أعقاب حرب أكتوبر 1973، لكنها ومنذ ذلك الحين لم تتوقف يوماً عن ممارسة العدوان بحق أطراف عربية أخرى.فلم تكد الاتفاقية تُفعَّل، فإذا بإسرائيل تجتاح لبنان، وبعدها تضرب المفاعل النووي العراقي، ثم تشن عدوانها على جنوب لبنان في يوليو 2006، قبل أن ترتكب الجريمة الكبرى في غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009.وعلى مدى كل هذه السنوات لم تتوقف الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين خصوصاً؛ فقتلت وشردت وأذلت الآلاف منهم، كما هدمت البيوت، وهودت القدس، وواصلت سياساتها الاستيطانية التوسعية، وأنشأت جدار الفصل، وماطلت وسوّفت لتفسد كل المفاوضات التي استهدفت الوصول إلى حلول للمشكلات الرئيسة ومنها المياه والقدس واللاجئين والحدود وصولاً إلى تسوية نهائية تتسم بالعدالة لهذا الصراع المقيم. 1400 شهيد و5200 جريح، وتدمير منهجي لقطاع غزة، واتهامات دولية وحقوقية من منظمات ذات صدقية بارتكاب جرائم حرب، وشهادات لجنود إسرائيليين بارتكاب عمليات قتل غير مبررة واستخدام مدنيين فلسطينيين كدروع بشرية والإفراط في استخدام القوة، وانتقادات في الصحف العبرية من كتاب إسرائيليين بأن «جيش الدفاع جلب لنا العار في غزة»، كلها تبدو وكأنها صحوة ضمير من قبل الجاني وبعض الأطراف المحايدة في هذا العالم، فماذا عن المكلوم؟ثلاثون عاماً مرت، ليجئ نتانياهو على رأس حكومة يمين متطرف متعهداً بـ«السعي إلى السلام وتوسيع الاستيطان»، وليتولى ليبرمان حقيبة الخارجية، ودون أن تكف إسرائيل يوماً عن قتل الفلسطينيين وتشريدهم واغتصاب الأراضي السورية.ثلاثون عاماً مرت وبدلاً من أن يسعى الجانبان العربي والإسرائيلي إلى تفعيل المبادرة العربية التي طرحها الملك عبدالله بن عبد العزيز، في القمة العربية ببيروت العام 2002، فإن قمة الدوحة، المقررة غداً وبعد الغد، ستنظر في ما إذا كانت ستسحب المبادرة أم ستعلقها، بحيث تتخذ إجراء ما لا يبقيها على الطاولة.عاشت معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية ثلاثين عاماً، لكنها تضمر وتنزوي وتفقد قدرتها على المحاججة والمباهاة، والأهم من ذلك أن إسرائيل لم تظهر بعد على الخرائط المعلقة في فصول التلاميذ المصريين، ولم يعد هناك من يقدر على إجبار أصغر تلميذ في مصر على الهتاف لـ«السلام»، حتى لو بضرب النار.* كاتب مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء