هناك أمثلة عديدة لاستخدام فن الكاريكاتير في الجبهتين الرئيستين للمقاومة، وهما منازعة الحكم الجائر ومنازلة العدو الخارجي، ومن معالم الجبهة الأولى استعمال الكاريكاتير في الاهتمام بحقوق الإنسان، وهي مسألة أدركها الحقوقيون أنفسهم، ودافعوا عنها في مواضع عديدة. فها هو مدير المنظمة العربية لحقوق الإنسان الأستاذ محمد فائق يقول في سياق تبريره لقيام المنظمة بإقامة معرض ومسابقة للكاريكاتير والملصق على الصعيد العربي بمناسبة مرور أربعين سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «قد يتساءل البعض لماذا تهتم المنظمة العربية لحقوق الإنسان بفن الكاريكاتير، وما علاقة ذلك بتوجهات عملها... لكن اهتمامنا هذا لم يأت من باب الدعاية أو القيام بنشاط ترفي معزول عن قضايا وهموم الناس، بل تمت في إطار فهم عميق لدور الفنون، وشتى أشكال الإبداع، وخاصة فن الكاريكاتير في تنمية الوعي بحقوق الإنسان... إن هذا الفن هو أذكى وسيلة تسخر من الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الإنسان، بل إنني لا أبالغ إن قلت إن فن الكاريكاتير كرس نفسه منذ البداية للدفاع عن حقوق الإنسان بالسخرية من كل صور التسلط والقهر التي تصيب الفرد في بيته وعمله وفي حياته، ومن هنا فلست أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن فن الكاريكاتير هو فن حقوق الإنسان».
وحضور الكاريكاتير في قضية حقوق الإنسان لم تعد تخطئه عين الدارسين وفهمهم، وها هو واحد منهم يخصص دراسة لأحد المؤتمرات حول «حقوق الإنسان في الكاريكاتير المصري» يتتبع فيها تناول بعض الصحف القومية والمعارضة والخاصة للكثير من أنواع حقوق الإنسان، مثل الحق في الطعام والرعاية الصحية والمسكن والتعليم والعمل، والحق في الأرض والمساواة وحماية البيئة، وحق الأفراد في اتخاذ الإجراءات الإدارية التي تحمي مصالحهم وتقيهم من الاستغلال. ورغم أن الدراسة قد كشفت أن رسامي الكاريكاتير لا يغطون كل هذه القضايا، فإنها اهتمام يهمهم بصفة عامة. وليس هناك ما يمنع من أن يمتد هذا الاهتمام ويتعمق ليطوي كل التفاصيل المتعلقة بحقوق الإنسان، الآنية والقادمة. ويحضر الكاريكاتير أيضا في القضايا الكبرى حضورا ظاهرا، فقضية القدس مثلا، وهي مسألة مركزية في الحياة السياسية العربية، لاقت اهتماما لافتا من رسامي الكاريكايتر، حيث قدموا قراءة دقيقة للمعطيات السياسية المحيطة بالقدس، أحاطوا فيها بحيثيات القضية وتفاصيلها، وجوانبها الكلية أيضا، فها هو الرسام الأردني خلدون غرايبة يعبر عن تهويد القدس في واحدة من رسوماته، من خلال صورة يظهر فيها المسجد الأقصى تحيطه نجمة داود ذات الرؤوس الستة، وقد بنيت خطوطها من الطوب الذي تبنى به المستوطنات. وهناك رسام الكاريكاتير السوري الشهير علي فرزات التي يظهر فيها المسجد الأقصى وبجانبه رسم آخر يمتلك السمات نفسها، لكن في أعلاه تم استبدال «الهلال» الإسلامي بـ«الشمعدان» اليهودي. أما الرسام السوري أيضا طه عيسى فقد رسم يهودياً وهو يحمل القدس برمزها ونباتها وبشرها وعمارتها ويركض في اتجاه مؤشر يقود إلى التهويد. وأضاف الرسام المصري أحمد طوغان بعدا جديدا يعبر عن موقف الولايات المتحدة الأميركية المتحيز لإسرائيل، وتشجيعها لتهويد القدس، فيظهر في إحدى لوحاته تعليق ساخر على قرار مجلس النواب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ويقدم رسام الكاريكاتير البحريني عبدالله محرقي صورة توضح أثر الهجرة اليهودية على القدس. ويرد الرسام الكويتي عبدالوهاب العوضي بصورة تدعو إلى مقاومة مخطط تهويد هذه المدينة المقدسة، حيث تظهر فيها قبة الصخرة وفي أعلاها الهلال، وقد انعكس ظله على القبة متخذا صورة بندقية. وفي أسفل القبة وضعت أحجار، نبتت من قلبها زهرة. إن الكاريكاتير يبدو نوعا جليا من المقاومة المدنية، في حين يُستخدم على نطاق واسع في المقاومة المسلحة، وقت النزال، ليصبح أداة من أدوات الحرب النفسية التي تشن ضد العدو، فتحط من قوته، وتشجع على التصدي له. وسواء رافقت الرسم كلمات شارحة ومضيفة إلى المعنى، أو ظهر من دونها على صفحات الجرائد والمجلات فإنه لا يمكن أن يمر هباء منثورا، ولا يمكن أن يكون مجرد رسم خال من مسألة كبرى، بل إنه ينطوي في مبناه ومعناه على قول وفعل مقاوم، سواء كان مباشرا صريحا، أو مضمرا ورمزيا، ليترك دوما أثرا قد لا تفعله آلاف السطور المكتوبة.* كاتب وباحث مصري
مقالات
المقاومة بالكاريكاتير (4-4)
28-10-2008