«الأصمعي» اسم مشهور، بل لعله أشهر أعلام عصره في سماء اللغة وعلومها، وهو صاحب أحد أقدم وأهم الكتب المصنفة عن «الخيل»، كنيته: أبو سعيد، واسمه: عبد الملك بن قُرَيب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهِّر بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. بصري لغوي إخباري لقب بالأصمعي (نسبة إلى جده أصمع), ويقال بل اسم أبيه عاصم ولقبه قريب.

Ad

وصف «الأصمعي» نفسه قائلاً «أحفظ أكثر مما رويت»، وهو رأي لا يوافقه فيه عدد من معاصريه، الذين يرون أن ما يميزه هو «عبارته» لا «روايته»، قال عنه الإمام الشافعي: «ما عبَّر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي»، وقارن «أبو نواس» بينه وبين معاصره «أبي عبيدة» فقال: «إن أبا عبيدة لو أمكنوه لقرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين, وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته». والمعنى أن «أبا عبيدة» أغزر علماً، و«الأصمعي» أبلغ عبارة، وهو رأي يتفق فيه «أبو نواس» مع بعض معاصري «الأصمعي» ـ أو قل منافسيه ـ الذين كانوا يشككون في صدق ما يروي من قصص وأخبار، ولما رأوه ينسبها إلى أعراب يزعم أنه يقابلهم في البادية قائلاً: حدثني أعرابي، أو: سمعت من بعض الأعراب، وما إلى ذلك، تساءلوا ذلك السؤال المبطن بالاتهام: وأين هذا الأعرابي الذي حدثه؟

عوامل تفرده

على كل حال فإن «الأصمعي» لم يغفل عما وجه إليه من اتهام، ولا هو قصر في الدفاع عن نفسه، وما دمنا بصدد الحديث عنه باعتباره مؤلف كتاب «الخيل»، فلنذكر ما حدَّث به عن نفسه، في سياق المقارنة بين كتابه وكتاب «أبي عبيدة» في الخيل، حيث يقول: «حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع فقال لي: كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد, فسأل أبا عبيدة عن كتابه فيها فقال: خمسون مجلداً, فقال: قم إلى هذا الفرس وأمسك كل عضو منه وسمِّه, فقال : لست بيطاراً, وإنما هذا شيء أخذته عن العرب, فقال لي: قم يا أصمعي وافعل أنت ذلك, فقمت وأمسكت ناصيته وجعلت أسمِّيه عضواً عضواً, وأنشدت ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه, فقال : خذه فأخذته وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه».

هذه القصة حكاها «الأصمعي» في حياة «أبي عبيدة»، ولا شك في أن الأخير سمعها، وأنه لم يرد عليها ـ على الأقل فيما وصلنا من أخبار تناقلها منافسو «الأصمعي» ـ ما يجعلنا نميل إلى تصديقها، ونراها رداً على ما ذكره «أبو نواس» عن الرجلين، ويبدو أن «أبا نواس» مال إلى «أبي عبيدة» لفضله في اللغة، التي كانت علومها مدخله لدراسة كل شيء حتى الخيل، ولهذا نراه يعلل جهله بأعضاء الحصان قائلاً «لست بيطاراً»! كأنما البيطار وحده هو المكلف بمعرفة بدن الحصان وما فيه من أعضاء، وكأنه يمكن لرجل أن يضع كتاباً في الخيل، مع أنه لا يعرف أعضاءها الظاهرة للعيان! وتأكيداً لأن «أبا عبيدة» إنما كان عالم لغة، حتى وهو يبحث موضوعاً يقع خارج نطاق علوم اللغة، نراه يقول «إنما هذا شيء أخذته عن العرب».

أما «الأصمعي» فكان رجل خبر ورواية مع كونه رجل لغة، والإخباري إنما يعتمد على رجال كل علم ناقلاً ما في جعبتهم، أي أنه «يسأل أهل الذكر»، ومع تكرار السؤال تتراكم المعرفة، وتضاف إليها خبرة المعايشة والممارسة ليصبح منهم.

ومما أعان «الأصمعي» على اتساع التصنيف ودقة التأليف، قوة ذاكرته، حيث قال عن نفسه إنه يحفظ اثنتي عشرة ألف أرجوزة. وروى ثعلب، عن أحمد بن عمر النحوي أن «الأصمعي» حفظ أكثر من أربعين «تأشيرة» مختلفة وقع بها الأمير على الطلبات المقدمة إليه في «الرقاع»، ما جعل كاتب الأمير ينصحه بأن يخفى ما وهبه الله من ذاكرة قوية عن عيون الحساد، يقول ثعلب: «قدم الحسن بن سهل، فجمع أهل الأدب, وحضرتُ, ووقَّع الحسن على خمسين رُقعة, وجرى ذكر الحُفَّاظ, فذكرنا الزُّهريّ وقتادة, فقال الأصمعي: فأنا أُعيد ما وقَّع به الأمير على التوالي، فأُحضرت الرقاع, فقال: صاحب الرقعة الأولى كذا وكذا, واسمه كذا وكذا, ووقِّع له بكذا وكذا، والرقعة الثانية كذا والثالثة كذا, حتى مرَّ على نيف وأربعين رقعة، فقال نصر بن علي: أيها المرء أبق على نفسك من العين».

ومما تميز به «الأصمعي» وتفوق به على أقرانه، قوة العبارة، إذ كان يحسن صياغة أفكاره ويلقيها واضحة متماسكة تعجب السامعين، قال عمرو بن مرزوق: «رأيت الأصمعي وسيبويه يتناظران، فقال يونس: الحق مع سيبويه، وهذا يغلبه بلسانه».

ولا شك في أن العمر الطويل الذي تمتع به «الأصمعي» ـ نحو 90 سنة ـ أتاح له أن تتسع دائرة مؤلفاته لما يقرب من 50 كتاباً، كما أن ازدهار الدولة واستقرارها ـ حيث عاصر عهدي هارون الرشيد وابنه عبد الله المأمون ـ كان مما ساعده على التفرغ للعلم.

سيرة عربية

ولد «الأصمعي» سنة122هـ / 740 م في بيت عربي عريق في الكتابة, نشأ بالبصرة في ظروف مضطربة, وأخذ العربية والحديث والقراءة عن أئمتها منكباً على التحصيل في مسقط رأسه، وأفاد من دروس الخليل وأبي عمرو عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، وسرعان ما أصبح شيخاً يسمع له الناس في البصرة، فأخذ عنه أبو الفضل الرياشي وأبو عبيد وأبو هاشم السجستاني وأبو سعيد السكري.

كما نقل عن فصحاء الأعراب الذين كانوا يفدون إلى البصرة, وأكثر الخروج إلى البادية, وشافه أهلها وساكنهم. وربما استغرقت بعض رحلاته سنوات يحج في أثنائها ويلتقي الفصحاء في المواسم، حتى اجتمع له من الأخبار النوادر والغريب ما لم يجتمع لغيره.

وكان مع اشتهاره بالرواية والتضلع في اللغة مشهوراً بنقد الشعر أيضاً, أخذ ذلك عن خلف الأحمر، وله في الشعر والشعراء آراء عالية. وهو على ظرفه شديد الورع كثير الاحتراز في تفسير الكتاب والسنة. نال حظوة عند الوزير «جعفر بن يحيى البرمكي»، وكان نديماً لهارون الرشيد ومؤدباً لولده حتى توفي، فلما ولي المأمون، وقامت الفتنة بخلق القرآن خاف على دينه وغادر «بغداد» عائداً إلى داره في «البصرة» التي لزمها حتى مات، وحرص المأمون على أن يصير إليه، فاحتج بكبر سنه وضعفه، فكان المأمون يجمع المشكل من المسائل ويسيّرها إليه ليجيب عليها.

ورُئي بعد ذلك راكباً حماراً دميماً فقيل له: «أبعد براذين الخلفاء تركب هذا؟ فقال: هذا وأملك ديني أحب إلي من ذاك مع فقده».

وهكذا رضي من العيش بالكفاف حتى توفي سنة 213 هـ / 821 م، عن عمر يناهز 90 سنة، وقيل بل توفي سنة 216 هـ.

وللأصمعي مؤلفات شتى سردها ابن النديم في الفهرست، طبع منها 17 كتاباً، بينها: «خلق الإنسان»، «خلق الإبل»، «الشاء»، «الوحوش»، «الأضداد»، «القلب والإبدال»، «النبات»، «الدراسات»، «النخل والكرم»، «فحولة الشعراء». عدا نحو 30 كتاباً لم يطبع بعد، منها: «الأنواء»، «الصفات»، «الميسر والقداح»، «الأمثال»، «مياه العرب»، «جزيرة العرب»، «الرحل»، «نوادر الأعراب».

وله غير ذلك تلك المجموعة الفريدة المسماة بـ«الأصمعيات»، التي وضعها لتأديب ولدي الرشيد ـ الأمين والمأمون ـ فكأنها كانت «منهجهم الدراسي». فضلاً عن دواوين شعراء العرب التي وعاها صدره وخطها قلمه، والتي يرجع إليه فضل كبير في وصول ما وصل منها إلينا.