هل المعركة ضد التضخم هي المعركة المطلوبة؟

نشر في 31-08-2008
آخر تحديث 31-08-2008 | 00:00
البنوك المركزية الرئيسية على كل من ضفتي الأطلنطي استجابت للأزمة المالية، إلا أنها لم تبالغ في ردة فعلها. فرغم مبادرة هذه البنوك إلى ضخ السيولة النقدية، فإن توابع الأزمة المالية كانت سبباً في استبعاد خطر الانزلاق إلى حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار والأجور.
 بروجيكت سنديكيت إن البنوك المركزية في أنحاء العالم المختلفة، وعلى رأسها مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي)، أصبحت اليوم تحت ضغوط متزامنة تأتيها من جهتين: فهي من جهة اليسار مطالبة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتوسيع الطلب وإبقاء معدلات البطالة العالمية عند مستويات منخفضة؛ وهي من جهة اليمين مطالبة بتقليص الطلب في محاولة لكبح التضخم.

وهذا في الحقيقة موقف محرج للغاية، إذ إن أحد هذين التشخيصين لابد أن يكون على خطأ. فإذا ما رفعت البنوك المركزية العالمية أسعار الفائدة، رغم أن المشكلة الرئيسية تتلخص في عدم كفاية الطلب العالمي، فقد يؤدي هذا إلى الكساد. وإذا لم ترفع أسعار الفائدة بينما المشكلة الرئيسية تتلخص في التضخم فقد يؤدي هذا إلى ارتفاعات حادة في الأسعار وارتفاع توقعات التضخم، والوقوع في حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار ثم ارتفاع الأجور، كتلك التي حدثت أثناء سبعينيات القرن العشرين، والتي لم تنكسر إلا بانزلاق العالم لاحقاً إلى حالة أشد عمقاً من الكساد.

وفي اعتقادي أن اليسار قد أصاب في رأيه هذه المرة. إذ إن مؤشرات التضخم الشامل هي الوحيدة التي تشير إلى التضخم باعتباره مشكلة، أو حتى باعتباره أمراً واقعاً. فضلاً عن ذلك فإن مؤشر تكاليف توظيف العمالة الأميركي، وغيره من المؤشرات المرتبطة بنمو الأجور الاسمية في بلدان العالم المتقدم، لم يُـظهِر أي تسارع في عملية التغيير. وأيضاً لم تُـظهِر مؤشرات «التضخم الأساسي» أي علامة تؤكد تسارع معدلات التضخم.

إن الولايات المتحدة تعاني انهيارا ماليا ناتج عن خسائر الرهن العقاري، وهو ما قد يودي بها إلى الركود الشديد أو حتى الكساد إذا ما اعتمدت على سياسة نقدية عادية في مواجهة هذه الأزمة. ففي الأوقات الطبيعية تتجه استجابة الاحتياطي الفيدرالي نحو رفع معدلات التضخم بصورة واضحة- حيث تركز هذه الاستجابة على الحوافز النقدية المتطرفة. بيد أننا اليوم لا نمر بأوقات طبيعية. والحقيقة أن السياسة النقدية التي ينتهجها الاحتياطي الفيدرالي لم تكن كافية لصد الركود عن الولايات المتحدة، رغم أنه ركود معتدل إلى الحد الذي يجعل بعضهم يتساءلون ما إذا كان الأمر يستحق هذا الانزعاج.

كانت استجابة البنك المركزي الأوروبي شبيهة باستجابة الاحتياطي الفيدرالي، إلا أنها كانت أقل قوة، حيث السياسة النقدية متساهلة على نحو لا يتفق مع ما تشير إليه معدلات التضخم الشامل. وفي أوروبا الغربية أيضاً يتجه الناتج المحلي الإجمالي نحو انخفاض الآن.

الأمر باختصار أن البنوك المركزية الرئيسية على كل من ضفتي الأطلنطي استجابت للأزمة المالية، إلا أنها لم تبالغ في ردة فعلها. فرغم مبادرة هذه البنوك إلى ضخ السيولة النقدية، فإن توابع الأزمة المالية كانت سبباً في استبعاد خطر الانزلاق إلى حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار والأجور.

بيد أن مؤشر التضخم الشامل في ارتفاع. وهذا يعكس ثلاثة تطورات. الأول، أن العالم، في الوقت الحالي على الأقل، بلغ سقف حدود موارده، وبدأنا نشهد تحولاً كبيراً في الأسعار النسبية في ظل استجابة الاقتصاد العالمي على النحو اللائق بتخفيض تكاليف العمالة ورأس المال ورفع تكاليف النفط والموارد الأخرى. والنتيجة الطبيعية لهذا التحول النسبي في الأسعار تتلخص في ارتفاع مؤشرات التضخم الشامل.

والثاني، أن عودة الدولار، داخل الولايات المتحدة، نحو استرداد قيمة توازنه لابد أن يصاحبها تضخم في أسعار الواردات. فضلاً عن ذلك فإن التكاليف التي يتحملها المستهلكون في الولايات المتحدة أصبحت في ارتفاع مستمر، الأمر الذي يجعلهم يشعرون بأنهم باتوا أقل ثراءً، ليس لأنهم أصبحوا أفقر، ولكن لأن النمط السابق من الخلل في التوازن العالمي كان سبباً في المبالغة في تقدير ثرائهم. والحقيقة أن إصلاح خلل التوازن العالمي أمر مؤلم بالنسبة للمستهلكين الأميركيين، وهذا الإصلاح يعبر عن نفسه في هيئة ارتفاع مؤشرات التضخم الشامل. إلا أن الرد على ذلك بمكافحة التضخم داخل الولايات المتحدة ليس بالحل الملائم على الإطلاق- إذ إن ذلك سوف يكون أكثر إيلاماً بالنسبة للمستهلكين في الولايات المتحدة، فضلاً عن كونه حلاً غير مجدٍ.

أخيراً، وكما أكد خبيرا الاقتصاد آدم بوسين وآرفيند سوبرامانيان: فإن «ملاحقة الصين لأهداف تجارية بحتة من شأنها أن تؤدي إلى التضخم وفرط النشاط الاقتصادي في الداخل. ولكن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لحمل الصين على التخلي عن هذه الأهداف تبدو على قدر عظيم من النفاق والرياء، وذلك لأن الولايات المتحدة ذاتها اختارت تعظيم الحوافز... وإذا ما بادر «بنك الشعب» (المركزي) الصيني ومجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التنسيق فيما بينهما وبالتعاون مع أغلب البنوك المركزية لإحكام السياسات النقدية فهذا من شأنه أن يلطف من المخاوف الصينية بشأن انحدار المنافسة...».

إن السياسة التي تنتهجها الصين في دعم الصادرات من خلال التلاعب بالعملة كان من المحتم أن تعجز عن الاستمرار على الأمد البعيد، وذلك لأنها كانت لابد أن تؤدي إلى توليد معدلات تضخم كبيرة في الداخل. والآن تولد هذه السياسة قدراً هائلاً من العناء والألم بالنسبة لدول أخرى نامية نظراً لسعي الصين صاحبة الاقتصاد المزدهر إلى مسابقة هذه البلدان إلى الفوز بالقدر الأعظم من الموارد. ولكن من المستحيل على الصعيد السياسي أن تبدل الصين سياسة سعر الصرف التي تنتهجها تحت الضغوط ومن دون بعض «التنازلات» من جانب الولايات المتحدة، وتستطيع الولايات المتحدة أن تقدم مثل هذا «التنازل» بإحكام سياستها النقدية.

إلا أن هذا كله يجعلنا نغفل عما ينبغي أن يكون في مركز هذا الحوار: ألا وهو أن رفع معدلات البطالة في الولايات المتحدة في الوقت الحالي ليس بالهدف المناسب في إطار المساعي المبذولة لتثبيت ناتج الولايات المتحدة، وليس بالحل الذي قد يعود بأي فائدة تذكر فيما يتصل بتثبت الأسعار في الولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك فإن تعجيل الولايات المتحدة بخفض حجم وارداتها لن يصب بأي حال في مصلحة البلدان النامية ذات الاقتصاد القائم على التصدير بما فيها الصين.

* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top