يتفق الجميع على أن ورقة الضمان الوحيدة للبنان هي الجيش: فكيف كان... وكيف أصبح؟ وهل بات جاهزاً لحماية البلد من العواصف ومشاريع العواصف التي ينذر ميزان الأحوال الجوية بهبوبها في أي وقت؟!

Ad

الرئيس الأسبق فؤاد شهاب كان أول قائد للجيش اللبناني، أشرف على تأسيس وتنظيم نواة الجيش بعد خروج القوات الفرنسية من لبنان وإعلان الاستقلال في الأربعينيات، وقبل ذلك كان قائد فرقة لبنانية تعمل ضمن الجيش الفرنسي المنتدب على لبنان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأُطلق عليه اسم «جيش الشرق». بعد خروج الفرنسيين تحول الاسم إلى الجيش اللبناني حيث تولى شهاب قيادته لأنه كان الضابط اللبناني الأعلى رتبة، وعديد الجيش لم يتجاوز في ذلك الوقت 10 آلاف جندي وضابط، وقد حرص شهاب على تنظيم الجيش وفروعه بعقلية فرنسية يجيد لغتها وتراثها أكثر من لغته الأم.

منذ البداية حرص شهاب على إبعاد الجيش عن السياسة، وسعى إلى تشكيل الفرق العسكرية معتمداً التوازن الطائفي كمبدأ أساسي لكنه كان يعطي الأفضلية إلى التفوق المهني على الانتماء الطائفي.

كان يؤمن بأن لبنان بحاجة إلى جيش مهني مئة في المئة يسير حسب التقاليد المتعارف عليها في جيوش العالم المتحضر، خصوصاً الجيش الفرنسي: الانضباط، الثقافة، التدريب والأخلاق. تميّزت خطبه على قلّتها في الحقبة الأولى للتأسيس بشعار: جيش صغير محترف أفضل من جيش كبير غير محترف. بنى عقيدة الجيش الوطنية على أساس «لبنان ذو وجه عربي» وهو الشعار الذي تمّ التفاهم عليه بين رواد الاستقلال الأوائل بشارة الخوري ورياض الصلح وهما أول رئيسين للجمهورية وللوزارة في عهد الاستقلال.

هذا الشعار لم يغضب سورية في حينه التي نالت استقلالها في اليوم ذاته مع لبنان، وكان تركيز شهاب، في بداية قيادته العسكرية، إنشاء جهاز صغير متواضع أطلق عليه اسماً فرنسياً وترجمته «المكتب الثاني» واختصاصاته المخابرات العسكرية على اختلاف أنواعها. ومنذ البداية كان شهاب يؤمن بأن العدو الرئيسي للبنان هو إسرائيل بالرغم من أن توليه للقيادة العسكرية سبق قيام دولة إسرائيل في العام 1948. وكان «المكتب الثاني» منذ إنشائه موجهاً نحو رصد النشاط اليهودي داخل لبنان، ثم بعد قيام الدولة العبرية ازداد التركيز على هذا الاتجاه وانتقل النشاط الرصدي إلى الخارج، وهذا يعني أن رؤيته كانت سليمة منذ البداية. ويعني أيضاً أنه كان يؤمن بأن الجهد يجب أن ينصب لمقاومة هذا العدو لأن هذه المقاومة هي «حرب استباقية» على لبنان أن يخوضها، لأن هدف إسرائيل الثاني بعد إقامة دولتها هو التوسع الجغرافي على حساب لبنان. في هذا الإطار من التوجيه السياسي كان ضباط «المكتب الثاني»، وبصورة خاصة فرع مقاومة التجسس الإسرائيلي يعملون بصيغ علمية وحضارية بعيداً عن ضجيج الإعلام.

لقد تمكن فؤاد شهاب، قبل أن يستلم رئاسة الجمهورية بعد أحداث عام 1958، من تحقيق قيام جهاز مخابراتي متواضع في عدده وفي ميزانيته المالية، لكنه كان فعّالاً في العمل الميداني.

خلاصة القول إن الجيش، منذ إنشائه، تربى على العداء لإسرائيل، وعمل في الفترة الفاصلة بين تأسيسه وبين بدء الحرب الأهلية في العام 1975 على تكريس هذا العداء عملياً وميدانياً. وكل من قال ويقول عكس ذلك يرتكب خطأً تاريخياً فاضحاً. وقعت الكارثة الكبرى في الحقبة الأولى للحرب الأهلية حيث تغلب الشعور الطائفي على الانتماء الوطني بين صفوف القياديين الكبار والصغار على حد سواء بحيث أصبح الجيش الذي بناه فؤاد شهاب عدة جيوش مذهبية وطائفية. ولا بد من التذكير، للتاريخ فقط، أن المقاومة الفلسطينية كان لها الفضل الأول في تحويل هذا الجيش المعادي لإسرائيل عقائدياً وعملياً إلى جيوش تعاون بعضها بشكل مكشوف مع إسرائيل، كذلك لا بد من الإشارة إلى أن معظم الضباط الذين درسوا وتخرجوا من مدرسة فؤاد شهاب قد اختاروا العزلة وعدم الاشتراك في هذه الجريمة المروعة.

إن هذه العزلة كانت العامل الرئيسي في إعادة توحيد الجيش في الثمانينيات التي لعب فيها الرئيس السابق إميل لحود مع مجموعة من الضباط الشهابيين، الدور الكبير في العودة إلى التوحيد. ولكن أي توحيد هو الذي جرى ولايزال يجري؟

أيضاً للتاريخ فقط، وللتذكير بدور الجيش عندما كان الجيش جيشاً موحداً، برزت حوادث وأحداث عدة تدل على مهنية وصلابة الاتجاه الوطني الصافي من أي شائبة، وتثبت بلوغه عالياً في مجال مقاومة النشاط الإسرائيلي داخل لبنان. سأختار واقعتين من عشرات: الأولى: أن فرع مقاومة التجسس الإسرائيلي في الجيش اللبناني في النصف الأول من بداية الستينيات، وعبر شبكاته الصغيرة التي استطاع إنشاءها في عدد من البلدان الأوروبية خصوصاً في جزيرة قبرص، تمكن من جمع معلومات لا تقدر في حينه بثمن عن النشاط الإسرائيلي السري لبناء القنبلة الذرية. كان الجهاز العربي الأول الذي سلّط الأضواء على مفاعل «ديمونا» الذري في الوقت الذي كان اسم «ديمونا» في غياهب المجهول. وعندما اطلعت القيادة العسكرية على محتوى التقرير حول النشاط الذري الإسرائيلي وجدت أنه من الخطأ الكبير ألا تلفت نظر العرب، خصوصا مصر-عبدالناصر، وأن تشاركه في هذه المعلومات.

تطوعت القيادة اللبنانية وأرسلت نسخة عن التقرير إلى القاهرة التي كانت تعرف القليل القليل عن النشاط الذري الإسرائيلي، وسارعت القاهرة، خلال ساعات من تلقيها التقرير، إلى الاتصال السري ببيروت على مستوى القيادات العسكرية والسياسية العليا. تجاوبت بيروت وعُقِدت سلسلة لقاءات سرية تمّ على أساسها قيام تعاون مصري-لبناني في مجال الرصد، ثم تطور هذا إلى شؤون أخرى. كان ذلك بداية تعاون استخباراتي دام، بشكل أو بآخر إلى حين نشوب الحرب الأهلية في لبنان... وغني عن القول إن بصمة فؤاد شهاب دمغت هذا التعاون، بالرغم من أن مدة رئاسته للجمهورية كانت منتهية، لكن سيطرته على الشؤون العسكرية والسياسية الكبرى كانت لاتزال موجودة.

استكمالاً لهذه الواقعة، وبعد هزيمة 1967، وجدت القاهرة أن هذه الهزيمة قد أنتجت اختفاء معظم خلاياها التجسسية في الداخل الإسرائيلي والأوروبي معاً. كذلك وجدت أن الجهة العربية الوحيدة التي لم تتأثر خلاياها نتيجة للهزيمة هي لبنان. قدمت القاهرة، باسم عبدالناصر، اقتراحاً لبيروت: توسيع الخلايا اللبنانية على نفقة مصر، على أن يكون الإشراف الكامل للقيادة العسكرية اللبنانية المختصة.

والمطلوب إعطاء مصر نسخة مما تحصل عليه من معلومات، وقابلت بيروت اقتراح عبدالناصر بإيجابية متحفظة، وقبلت القاهرة بالتحفظ اللبناني الذي وجدته مشروعاً وسارت الأمور ضمن هذا الإطار حتى العام 1970 عندما انتخب الرئيس الأسبق سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بصوت واحد ضد مرشح فؤاد شهاب الرئيس المرحوم إلياس سركيس. نتيجة لذلك تغيرت الأجواء، نتيجة إعلان الرئيس الأسبق للحكومة المرحوم صائب سلام حرباً شعواء ضد الشهابية وأنصارها من ضباط قياديين عسكريين وسياسيين مدنيين.

وكانت النتيجة «طرد» الشهابية من صفوف الجيش وبصورة خاصة ضباط «المكتب الثاني» وملاحقتهم قضائياً، وهكذا تحول صائب سلام، الزعيم السني الأوحد حينذاك، من «الناصري المجاني» إلى الفريق المناوئ.

الواقعة الثانية لها طابع عملياتي يدل على جهوزية ضباط فرع مقاومة إسرائيل وشجاعتهم إلى درجة التهور المهني، فقبل حرب 1967 قامت إسرائيل بخطف ضابط استخباراتي لبناني من الحدود اللبنانية إلى داخل إسرائيل. وصدر الأمر باستعادة هذا الضابط «مهما كلف الأمر». فما كان من الضابط المسؤول عن الفرع اللبناني إلا أن تولى الأمر شخصياً، فدخل مع فريقه إلى إسرائيل ثم أحاط ليلاً بمنزل أحد كبار ضباط المخابرات العسكرية الإسرائيلية وخطفه إلى داخل الحدود اللبنانية. ثم جرت عملية التبادل.

المثير أن الضابط اللبناني، بدلاً من أن يتلقى تنويها بجرأته، تلقى توبيخاً لأنه أولاً تصرف بشكل فردي، وثانياً لأنه غامر بشخصه وهو ملك للجيش. وفي القوانين العسكرية هذا الأمر ممنوع بشكل نهائي، ويعرض صاحبه للعقوبة.

هكذا كان حال الجيش اللبناني. أما كيف أصبح فالقصة باتت معروفة. إن «جرثومة الشرذمة» البغيضة التي أصابت الجسم اللبناني لم توفـّر الجيش حتى بعد توحيدهـ فالوصول إلى جسم عسكري صحي يتطلب الصبر إلى أن ينتهي جيل الحرب الأهلية، ولعل القيادة العسكرية اليوم قد بدأت من الصفر في بناء جيش على غرار ما انتهت إليه مرحلة الستينيات ودمرته مرحلة السبعينيات.

في المرحلة الأولى كنا نصرخ وننادي بضرورة إبعاد الجيش عن السياسة، وفي المرحلة الحالية صار المطلب الملحّ هو إبعاد السياسيين عن العسكر، وهؤلاء مازالوا- للأسف الشديد- يملكون مفتاح العودة بالجيش إلى مرحلة الحرب الأهلية السوداء.

* كاتب لبناني