هناك مقولة خليجية تقول «الدين طير حر، من صاده قنص به» أراها تصدق على العلاقة السياسية لمجتمعاتنا- سلطة حاكمة ومعارضة دينية- بالدين، لقد وظف هذا الدين وعلى مر التاريخ الإسلامي، توظيفاً سياسياً نفعياً، سواءً على يد الأنظمة الحاكمة أو الجماعات الدينية المعارضة، وكان أول توظيف سياسي للدين، حينما رفع جيش معاوية «المصاحف» حكماً بين الجيشين المسلمين المتحاربين، ثم تطور على يد الخوارج الذين رفعوا شعار «لا حكم إلا لله» تبريراً لخروجهم على «علي» رضي الله عنه وحربهم للصحابة، لكن «معاوية» الخليفة الذي قلب الحكم الراشدي إلى ملك عضوض، هو المنظر والمؤسس الحقيقي للتوظيف السياسي الديني، وهو الذي أجاد فن استثمار الدين في توطيد حكمه وشرعنته وفي قمع المعارضين وتصفيتهم، وعلى نهجه سار كل من جاء بعده من الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين الذين حرصوا على استتباع المؤسسة الدينية، وقربوا بعض الفقهاء، وأغدقوا عليهم- وإن كان الكثيرون منهم خصوصا الأئمة الكبار أبوا التعاون مع السلطة ورفضوا عطايا السلاطين فتعرضوا للمحن- لقد كان تاريخ «الخلافة» في الإسلام، منذ معاوية حتى سقوطها «1924» تاريخاً من القمع والقهر والمحن تحت غطاء الدين، وكما يقول سليمان فياض «كان الخلفاء يضعون على وجوههم أقنعة الدين ويستخدمون شعاراته لإخضاع البلاد والعباد، ويهدمون في كل يوم مقاصد الدين في العدل وحرية الاعتقاد والتكافل والإخاء والمساواة واستقلال بيت مال المسلمين عن بيوت أموال الحاكمين» والمعارضة الدينية كذلك استحلت الدين- بدورها- بهدف نزع الشرعية عن السلطة بحجة أنها لا تطبق الشريعة ولا تحكم بالعدل، وإن أضافت إليها الجماعات المعاصرة تهمة جديدة وهي «ممالأة الغرب» والاحتماء به وتنفيذ مخططاته.

Ad

إن أعظم دروس التاريخ التي لا نريد الإفادة منها تقول: إن «تسييس الدين» هو الآفة الخطيرة المزمنة والمعوقة للتنمية والتحديث والتقدم وتكوين الدولة المدنية الحديثة، وإذا ما ألقينا نظرة عجلى على المشهد الخليجي العام فإننا نجد أن الجماعات الدينية النشيطة في الساحة، لا تخرج عن «3» تيارات:

1- التيار السلفي: وهو الأقدم في المنطقة ويرتبط بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي بايع أمير الدرعية «محمد بن سعود» وتحالف معه «1158 هـ» على نشر دعوته، هو تيار يقوم على احتكار «العقيدة الصحيحة» لأتباعه، ونفيها عن أتباع الفرق الإسلامية الأخرى، ويتشدد في النقاب وتحريم إسبال الثياب وحلق اللحى والاختلاط وكل ما يتعلق بوضعية المرأة في المجتمع، ويقف موقف الرفض من كل مظاهر التحديث في الملبس والمأكل والنظم والمؤسسات والتشريعات والفنون بحجة «من تشبه بقوم فهو منهم» كما لا يرى حق غير المسلمين في إقامة معابد لهم، ومع أن التيار السلفي- في أصله- لا يتعاطى مع السياسة إلا أن السلفية المعاصرة، فرّخت سلفيات: منها «التقليدية المستأنسة» كما في المؤسسات الدينية الرسمية، وهي إن لم تناوئ السلطة إلا أنها تعارض الخط الانفتاحي الخليجي، وهي بحكم هيمنتها الواسعة على المؤسسات الدينية والخيرية والمالية، وتغلغلها في كل المناشط المجتمعية- الثقافية والرياضية والاجتماعية- قوة مؤثرة سياسياً واجتماعياً، تعمل السلطات الخليجية حسابها، وقد تتحالف معها بهدف كسب الشارع الديني، أو اللعب على توازنات معينة، ومنها «السلفية السياسية» كما في الكويت والبحرين التي تشارك في العمل السياسي -الانتخابات والبرلمان- بحجة عدم تركه للفسقة الذين يشرعون للباطل، وقد فاز سلف الكويت بـ«8» مقاعد في البرلمان، ومنها «السلفية الجهادية» المناوئة للسلطة، التي ابتليت بها المنطقة أخيراً- أعلنت السعودية بدء محاكمة خلايا الإرهاب بـ«991» متهماً تورطوا في «190» عملية إرهابية ضربت السعودية منذ «12-5-2003 م».

2- تيار الإسلام السياسي: وأبرز نماذجه «الإخوان المسلمون» التي برزت في «1928» على يد الأستاذ حسن البنا، وهو تيار يقوم على أبدية الصراع مع الغرب باعتباره عدواً متربصاً، لا عمل له إلا استهداف المسلمين، ومن ثم يسحب اتهامه على الأنظمة الحاكمة- عدا المتحالفة أو المتعاطفة معه- ويعتبرها أنظمة عميلة، كما يتهم «دعاة التحديث» بأنهم «علمانيون» مبهورون بالغرب، وقد استطاع الإخوان، التسلل إلى العمق الخليجي والتغلغل في المؤسسات التعليمية والمالية، ونالوا حظوة أنظمة خليجية باعتبارهم تياراً معتدلاً يمثلون «قوة كبح» ضد التيار المتطرف والتكفيري، وهو قول لا تسنده حقائق الواقع العربي والخليجي، ويعد «الإخوان» أكبر قوى الإسلام السياسي تأثيراً في المنطقة، وأكثرها تنظيماً وقوةَ، وقد تبوأ العديد من عناصره مناصب وزارية وقيادية، وأصبحت لهم السيطرة على المؤسسات المالية الإسلامية في المنطقة، لكن الانطباع العام أنه تيار سياسي «متلون» في مواقفه، ولذلك خسروا في الكويت معظم مرشحيهم.

3- التيار السياسي الشيعي: الشيعة أحد المكونات الرئيسة في المجتمع الخليجي، ورغم ما أثير أخيراً عن الغزو المذهبي في بلاد سنية، فإنه بمعزل عن شيعة الخليج، إذ لا تشكيك في مواطنيتهم، نعم هناك تغلغل سياسي إيراني عبر شراء ولاءات سياسية سنية وشيعية ولكن هذا لا علاقة له بالشيعة في الخليج، الإسلام السياسي الشيعي كتنظيمات، حديثة الحضور في الساحة، وهي مجموعتان: الأولى مندمجة مع السلطة نتيجة تقاطع مصالحها معها، وأخرى معارضة، تغلب السياسة على الدين، وتعد «جمعية الوفاق الوطني» في البحرين أكبر التجمعات السياسية وأهمها، لكن الأحزاب الشيعية عموماً، وطبقاً لخليل حيدر، تعاني التذبذب بين متطلبات الدعوة في مجتمعات تغلب عليها المذاهب السنية، ومتطلبات مراعاة المذهب، كما لا يمكن اعتبارها قادرة على الانفراد بحكم أي بلد عربي بما في ذلك العراق ولبنان والبحرين فضلاً عن نجاحها في تجاوز خلافاتها الداخلية.

لنتأمل -الآن- مضامين طروح وأنشطة الجماعات الدينية الخليجية في تأثيرها على مستقبل الاستقرار السياسي الخليجي، أتصور أن النظام السياسي الخليجي، أكثر النظم العربية قدرة على التكيف مع المتغيرات الدولية، باعتمادها سياسات تقوم على العقلانية والواقعية والمصالح الوطنية وإيثار السلام وأيضاً –التحالف الوثيق- مع الغرب وأميركا، وهذا ما يفسر «الاستثناء الخليجي» فالخليج هو الأقوى اقتصاداً، والأكثر استقطاباً للاستثمارات، ومن أهم المراكز المالية العالمية، والأقل تأثراً بالأزمة المالية، تلك السياسات العقلانية، حمت «الجسم الخليجي» من «آفات» أيدولوجية فتكت بمجتمعات عربية كبرى، ومن هنا ضرورة اليقظة لمخاطر طروح الجماعات الدينية وتأثيرها على الاستقرار السياسي، فالملاحظ أن المضامين الرئيسة لتلك الطروح كلها، تقوم على «عصب» جوهري، هو العداء للغرب، ورفض معطيات الحضارة، والتنكر لإنجازاتها، والدعوة إلى كراهيتها والدعاء وصب اللعنات عليها وتمني زوالها، ولا أدل من شماتة القوم بها، والفرح بقرب زوالها- إثر الأزمة المالية العاصفة- بالقول بأن لعنة الله حلت عليها بسبب ظلمها للمسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، ولفجورها وأخذها الربا وجحودها، ولذلك فإن خطاب الجماعات الدينية عن الحضارة لا تخرج عن إحدى حالتين: التحذير منها، والتحريض عليها وكراهيتها وتشويه دعاة الحداثة المطالبين بالإفادة منها، هذا المسعى السلبي، يناقض كل توجهات النظام السياسي الخليجي ويشكل تحدياً لها، في سعيها لضمان ايجاد بيئة خليجية مستقرة سياسياً واجتماعياً، ومتصالحة مع العالم من غير عقد ووساوس مرضية.

النقطة الخطيرة الأخرى، إن الجماعات الدينية الخليجية الناشطة، تسعى «جاهدة» وراء ما يسمى بـ«أسلمة» المجتمع وبرمجته- سياسياً واقتصادياً وتعليمياً ومعرفياً واجتماعياً- كخطوة تمهيدية من الدولة «الحلم» «الدولة الإسلامية» التي تطبق الحدود الشرعية، وتميز بين المواطن المسلم وغير المسلم، وتعزل المرأة، وتعبئ الجماهير وتحشدها لمواجهة الغرب ومناطحة أميركا وإزالة إسرائيل، المفارقة في خطابات هذه الجماعات أنها تجيد فن التحريض والتعبئة والتهييج، لكنها لا تملك مشروعاً عقلانياً أو واقعياً قابلاً للحياة... انظر على سبيل المثال قول أحد الدعاة المجافي للمنطق: يا أمة المليار مسلم، لو أن كل واحد فيكم، بصق على إسرائيل بصقة واحدة، لتشكل نهر جارف يزيلها من الوجود.

النقطة الثالثة والخطيرة أيضاً أن طروح الجماعات الدينية لو هيمنت، لشكلت كابوساً خانقاً على حريات الناس، لأنها تحت ستار حماية الدين وحراسة الفضيلة، يتدخلون في أخص خصوصيات الناس فيلاحقونهم ويراقبون تصرفاتهم ويتجسسون عليهم تحت ما يسمى بهيئة الأمر بالمعروف، وفي النهاية فإن طروح الجماعات الدينية الخليجية بمضامينها الخطيرة، غير مؤتمنة على مستقبل الخليج لا سياسياً ولا ثقافياً ولا دينياً فضلاً عن كونها مُعِينَة على حماية المنجزات الخليجية المتحققة.

كانت هذه خلاصة لورقتي لمنتدى «الاتحاد» السنوي في أبوظبي.

* كاتب قطري