كان يجب أن يرسل الكونغرس الأميركي وفداً إلى نيلسون مانديلا عندما كان لايزال في زنزانته العنصرية التي مكث فيها هذه الأعوام الطويلة كلها، ليعتذر له عن هذا الإجرام الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه عنصري، كما أن تبنيه والإقدام عليه لا يمكن فهمه إلا على أنه انحيازٌ للون الأبيض الذي اضطهد «الأسود» ليس في جنوب إفريقيا فحسب، وإنما في أميركا نفسها، أيضاً.معيبٌ فعلاً أن يسمع العالم بأن الكونغرس الأميركي لم يُزِلْ اسم الشخصية العالمية نيلسون مانديلا من قائمة الإرهاب إلا قبل ثلاثة أيام فقط. فقبل ذلك كان هذا الرجل، الذي لو جُمع الرؤساء الأميركيون كلهم لما وصلوا إلى خصر المكانة التي احتلها في العالم بأسره، مطلوباً ومطارداً من قبل قضاء الولايات المتحدة بتهمة لا يجوز إلصاقها إلا بمَن هم على شاكلة مناحم بيغين وإسحق شامير وإرييل شارون، وبالطبع أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.
أكثر من عشرين عاماً قضاها نيلسون مانديلا في زنزانة انفرادية أرسله إليها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بالتهمة إياها التي لم يسقطها عنه الكونغرس الأميركي إلا قبل ثلاثة أيام فقط. وحقيقة أنه على الأميركيين أن يشعروا بالخجل، وأن يخبئوا وجوههم بأكفهم لأنه إذا كان هذا المناضل العالمي الكبير إرهابياً، فما الوصف الذي من الممكن يا تُرى أن يوصف به السيد جورج بوش؟!
ربما في البدايات، قبل أن يرسل نظام الفصل العنصري نيلسون مانديلا إلى الزنزانة الانفرادية التي مكث فيها نحو ربع قرن، كان مقبولا أن يكون الكونغرس الأميركي مصاباً بداء «غشاوة» العيون، وأن ينحاز إلى البيض في جنوب إفريقيا ضد هذا «الزنجي» الأسود الذي كان ذنبه كله أنه آمن بقضية شعبه، وأنه أصبح رمزاً لكل الرافضين للقهر والاحتلال ومصادرة حقوق الشعوب واضطهاد الوافدين من خلف البحور لأهل البلاد الأصليين، كما حصل مع الهنود الحمر الذين تعرضوا لحملات الإبادة الوحشية لتصبح أرضهم وبلادهم وطناً للذين هربوا من أوطانهم الأصلية تحت ضغط نزعات الجشع والفقر أو الاضطهاد الديني والإثني.
أما بعد أن اتضحت الأمور خلال وجود نيلسون مانديلا في زنزانته الانفرادية، وبعد أن تخلى «حزب المؤتمر» الذي ينتمي إليه عن العمل المسلح، مع أن هذا مقرٌّ حسب الشرائع الدولية في وضع مثل حالة جنوب إفريقيا قبل الاستقلال، فإنه ما كان يجب أن يبقى اسم هذا الرجل الذي غدا رمزا لكل الرافضين للاضطهاد العنصري والرافضين للاحتلال على لائحة الإرهاب الأميركي... إن هذا أمرٌ مخزٍ للأميركيين ولأعضاء الكونغرس الأميركي وللإدارة الأميركية، أيضاً.
كان يجب أن يرسل الكونغرس الأميركي وفداً إلى نيلسون مانديلا عندما كان لايزال في زنزانته العنصرية التي مكث فيها هذه الأعوام الطويلة كلها ليعتذر له عن هذا الإجرام الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه عنصري، كما أن تبنيه والإقدام عليه لا يمكن فهمه إلا على أنه إنحيازٌ للون الأبيض الذي اضطهد «الأسود» ليس في جنوب إفريقيا فحسب، وإنما في أميركا نفسها، أيضاً.
لو أن نيلسون مانديلا لديه ولو مثقال ذرة من النـزعة الإرهابية، لمّا بادر بعد خروجه من زنزانته العنصرية بعد انتصار نضاله ونضال شعبه إلى إعلان التسامح عنواناً لمسيرة جنوب إفريقيا المقبلة، ولفعل ما فعله موغابي في زيمبابوي، حيث نظم للبيض المستعمرين هجرات جماعية معاكسة، وحيث صادر مزارعهم واقطاعياتهم وأموالهم ووزعها على السود، أهل البلاد الأصليين.
حتى الآن لاتزال منظمة التحرير الفلسطينية مدرجة على لائحة الإرهاب في الكونغرس الأميركي، وذلك مع أن لها سفارة في واشنطن منذ نحو ثلاثين عاماً، ومع أن لها بعثة دبلوماسية في الأمم المتحدة، ومع أن ياسر عرفات حلَّ ضيفاً على البيت الأبيض أكثر من خمس عشرة مرة، ومع أن رجال هذه المنظمة أصبحوا وجوهاً معروفة في العاصمة الفيدرالية الأميركية. هذه هي أميركا بلد العجائب والغرائب. وهذا هو الكونغرس الذي كان قبل ثلاثة أيام فقط، يضع اسم نيلسون مانديلا إلى جانب اسم «أبو مصعب الزرقاوي» واسم «أبو حمزة المصري» و«أبوقتادة» وآباء الإرهاب الفعليين كلهم في العالم بأسره... فألف مبروك لهذا الرجل العظيم!
* كاتب وسياسي أردني