لا يمكن أن نختم الكلام عن «القلعة» قبل أن نتطرق إلى مذبحتها الشهيرة، التي جرت يوم الجمعة أول مارس (آذار) 1811م، وفيها أجهز «محمد علي باشا» على 470 أميراً وقائداً من المماليك، ليقطع دابرهم، ويسدل الستار على دولتهم، ويتركهم لا يطمعون إلا في الوظائف الدنيا والمناصب الصغيرة، بعد أن كانوا يناوئونه على حكم مصر.

Ad

ومذبحة القلعة هي الثانية التي يدبرها «محمد علي» ضد المماليك. كانت الأولى في 1806 حين دس إليهم من يغريهم بدخول القاهرة خلسة والوثوب على الباشا، فلما ابتلعوا الطعم أحاط بهم الجند، فقتلوا من قتلوا وأصابوا من أصابوا، وقبضوا على نحو المائة بعد أن حاصروهم في بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي، فذبحوا منهم خمسين ذبح النعاج، وساقوا الباقين إلى الباشا الذي قطع رؤوسهم وأمر بها فسلخت وتم حشوها تبناً، وأرسلت إلى «الأستانة» عاصمة الدولة العثمانية ، ليعرف السلطان أن المماليك قد أوقع بهم، وأن مصر قد دانت لـ «محمد علي» فعليه أن يقبل به حاكماً لها، حتى وإن كان يكرهه ولا يأمن جانبه.

هذه المذبحة أنهكت المماليك لكنها لم تقض على نفوذهم، وظل التربص قائماً بينهم وبين الباشا، وفي أغسطس (آب) 1810م جرت عدة معارك بين المماليك من جهة، والقوات العثمانية من الألبان ـ الذين ينتمي إليهم «محمد علي» ـ والأتراك من جهة أخرى، وفي 14 من أغسطس (آب) أرسل الباشا من أرض المعركة أول بلاغ حربي من نوعه إلى القاهرة، وفيه أن دولة المماليك قد زالت تماماً، ثم عاد إلى عاصمة ولايته تاركاً جنوده يطاردون فلول المماليك حتى أجلوهم خارج حدود مصر. لكنه نصر لم يكن حاسماً، ولم يخدع «محمد علي» الذي كان يدرك تماماً أنه لن يقر له قرار على أريكة حكمه إلا إذا تخلص من المماليك نهائياً، فشرع يستكمل بالحيلة ما بدأه بالسيف، ودعا من لم يقتل ولم يهرب من المماليك إلى المصالحة مغدقاً على من استجاب لدعوته منهم، ثم دعاهم يوم الجمعة، الذي تمت فيه المذبحة، إلى حفلة أقامها في القلعة بمناسبة توديع حملة عسكرية كان على رأسها ابنه «طوسن» الذي أنعم عليه السلطان العثماني برتبة «باشا» وعقد له لواء قيادة الحملة، ولا أجد لوصف أهوال تلك المذبحة إلا ما أورده المؤرخ «إلياس الأيوبي» في كتابه النادر «محمد علي ـ سيرته وأعماله وآثاره»، طبعته دار الهلال بمصر 1923م، من سطور ناطقة وكلمات دامية سجل فيها هذا المؤرخ المدقق حقيقة المذبحة كما حدثت بعيداً عما أحاط بها من أساطير، كأسطورة أمين بك أو «المملوك الشارد» الذي ألفت عنه الروايات ودبجت القصائد، وأسطورة أن المماليك ذبحوا بالسيف وهم يأكلون، وغير ذلك مما لم يصح. وقد حافظت على عبارته كما هي ـ بكلماتها وعلامات ترقيمها ـ شاهداً على لغة عصرها وبلاغة كاتبها، ولعله من المفيد أن نشير إلى معاني بعض الكلمات التي وردت فيها ولم تعد مستخدمة في عصرنا، فـ«الكتخدا» رتبة عسكرية تعادل رئيس الأركان، و«الانكشاريون» هم جنود الحامية العثمانية المرسلة من قِبَل السلطان، و«البيادة» أو «البانييه» أي المشاة، و«جاهين بك» كان أهم قادة المماليك، و«سليمان البواب» كان من كبار قادتهم.

يقول إلياس الأيوبي: «فلما تمت الحفلة، وقُلد الأمير طوسن اللواء، أُذن بالانصراف فتقدم الانكشاريون المماليك مباشرة، وسار الألبانيون خلفهم. وتلا الألبانيين فيلق مشاة يقوده الكتخدا؛ ومشى الجميع بين باب العزب، فنزل الانكشاريون المنحدر أولاً؛ ثم تبعهم المماليك، على بعدٍ قليل، حتى إذا خرج آخر انكشاري من الباب، كان الأربعمائة والسبعون أميراً مملوكاً يشغلون بجيادهم المنحدر كله من أسفله إلى أعلاه. حينئذ حدث أمران. الأول: أن باب العزب أقفل حالاً بعد خروج آخر انكشاري منه. والثاني: أن صالح أغا آق قوش أصدر أمره إلى البانييه، فانسلوا من وراء المماليك، وتسلقوا الصخور المحيطة بالمنحدر، وأسرعوا فكمنوا وراءها من الجهتين، ومن أسفل إلى فوق. وفي الحال تقدم الفيلق الذي يقوده الكتخدا وانتشر على الأسوار. حينئذ دوت طلقة المدفع، فما شعر المماليك إلا والرصاص يتناولهم من كل جانب، وهم لا يستطيعون عن أنفسهم دفاعاً. وما هي إلا لحظة وتكدست في الممر الضيق جثث الرجال والخيل، بعضها فوق بعض وجعلت الحركة متعذرة أكثر مما كانت. أما المماليك الذين وصلوا إلى باب العزب ورأوه مقفلاً، فإنهم لووا أعنة جيادهم، وقصدوا الرجوع. ولكن حركتهم هذه زادت الذعر ذعراً والخبل خبلاً. وأما المماليك الذين كانوا على رأس المنحدر، فما دوى حولهم الرصاص إلا ولووا، هم أيضاً، أعنة جيادهم وقصدوا البلوغ إلى داخل القلعة، ولكن فيلق البيادة المنتشر على الأسوار أصلاهم ناراً حامية، أردتهم بالعشرات، فكبر الهول واشتد البلاء، ورأى المماليك التعساء ـ وموت غير منظور يحصد صفوفهم حصداً ـ أن لا فائدة لهم من جيادهم، فترجلوا. وتعروا بسرعة من ملابسهم الثمينة الفاخرة، التي لم يكن من شأنها إلا أن تعيق حركات أيديهم وأرجلهم في ذلك الموقف الرهيب؛ وأقبلوا يجرون، وسيوفهم مشهرة في يد، وطبنجاتهم في الأخرى يبغون لقاء عدو يثأرون بقتله للكارثة التي حلت بهم. ولكنهم لم يجدوا أحداً، واستمر الرصاص الخفي الممطر من كل صوب يحصدهم حصداً. فسقط جاهين بك أمام عتبة قصر صلاح الدين. وبلغ سليمان بك البواب، والدم يسيل من كل أعضاء جسمه، باب السراي؛ فانطرح على عتبته، وصاح :«في عرض الحريم!» ـ وكانت استغاثة مقدسة في ذلك العهد ـ ولكن السيف تناول رقبته، فقطعها، وجرت جثته، مهينة، إلى مكان بعيد. وتمكن سبعة أو ثمانية من الأمراء من الوصول إلى المكان الذي كان طوسن باشا مقيماً فيه. فتراموا على قدميه، وسألوه الأمان. ولكن الشاب لم يجسر على مخالفة أوامر أبيه، وتخلى عنهم. فقتلوا صبراً بين يديه. وما انفك الرصاص يدوي ويتساقط كالمطر والمماليك يقتلون، حتى فنوا عن آخرهم. ولم ينج منهم إلا واحد فقط اسمه أمين بك ـ كان قد تخلف في الصباح لمهم، ولم يأت القلعة إلا وأول الموكب هال من بابها. فوقف ينتظر ريثما يخرج إخوانه، لينضم إليهم. ولكنه لما رأى الباب يقفل، وسمع دوي البنادق، أدرك أن هناك غدراً. فلوى عنان جواده، وفر إلى البساتين، ومنها إلى سورية. على أن هذا ليس ما تناقلته الألسن عن كيفية نجاته. والرواية التي قرت في الأذهان، هي: أنه لما دوى نذير الموت، وثب بحصانه إلى داخل القلعة، يبحث عن منفذ، فلم يجد، في كل جهاتها، سوى سور ارتفاعه ستون قدماً. فلم يتردد، وفضل نوعَ موتٍ فيه بصيص أمل بالنجاة على نوعِ موتٍ لا أمل فيه. فأجرى حصانه، وقفز به من فوق السور. فقتل الجواد ونجا الفارس، ولا يزالون حتى يومنا هذا يشيرون إلى المكان الذي قفز منه، ويدعونه محل وثبة المملوك!».

انتهى ما ذكره «إلياس الأيوبي»، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!