بعد الستين أرى سنواتِ العمرِ تتوزّعُ نصفين. ثلاثون في العراق الذي مازلتُ أتركه، ولا يَتباعد، وثلاثونَ في لندن التي مازلتُ أُقبلُ عليها، ولا تقترب.

Ad

«لأيّ أنتمي؟» يبدو سؤالاً يشقُّ على النفس، لأن الإجابة عنه مستحيلة.

فالانتماءُ إلى الزمن الأول يبدو لي بيانياً، وبلاغياً، فالرجلُ لا يخوضُ النهرَ مرتين، فكيف بخوضُ تيار زمنٍ بالغِ التسارع، لم يترك لي خيطَ انتسابٍ آلفُهُ وآنسُ به. ولذا لمْ أرَ الماضي الذي ذهب فردوساً هارباً فأحنّ إليه وأُنشده مع المنشدين، بل ينبوع مراثٍ وتراتيل قداس.

حين عدتُ إلى بغداد بعد زوال الدكتاتورية، كنت أتحدثُ مع أهل بيتي القديم، كأني أواصلُ حديثاً بدأ البارحةَ، ولم ينقطع. وكنتُ أشعرُ الأمرَ سيان مع أي فردٍ ينتسب الى محلتي العباسية القديمة. وبفعلِ اللقاء عرفتُ عمقَ انتسابي الى ذاكرتي في كلِّ سنواتِ المنفى. وكيف أني عشت داخلها كالحلزون في قوقعته.

كنتُ في لندن، حين أُخرجُ مجساتي من القوقعة، كمن يَخرجُ من ذاكرته، على أني لمْ أنم داخل ذاكرتي، طوال السنوات الثلاثين الثانية. كنت أعيش زمناً آخر عميقَ اللونِ، بالغَ الغرابة؛ لأنه كان، ببساطةٍ، زمناً شخصياً، وداخلياً إن شئتَ الدقة، وهل زمنُ المنفى غير هذا الزمن الشخصي الداخلي؟

حين أُسألُ عن سنواتِ لندن، عادة ما أُجيبُ بأنني فيها مقيمٌ داخلَ مكتبة عُظمى، أو مُنتظرٌ في محطةِ قطار لا أمل لي في مجيئه. مكتبة عامرة، كتلك التي تخيلَ بورخيس الفردوس الموعودة على هيئتها! مُتحفّزٌ أبداً على مقعدها للنهوض، من أجل إرجاع كتابٍ أنجزته، واستعارة آخر ليدخلَ قيدَ الإنجاز. لائحة مشاغلي مُزدحمة دائماً بموسيقى تنتظر، معارض تشكيل، أو كتب. وإذا ما حانت سِعةُ فراغ بينها أجدني أشحنُها بتأملِ أوراق خريفي الدائم. وخريفي مُنتخَبٌ، يملأ عليَّ فصولي جميعاً.

هذه الصورةُ التي تُفزعُ غيري، على ما أتوهّم، هي التي تُملي عليّ القصيدة التالية. وتُضفي على غصن الخريف لونَ الخضرة الداكنةِ المشوبةِ بالحمرة.

وإذا ما سهُلتْ عليَّ معالجةُ زمني الشخصي في المرحلة الثانية من العمر، فإن علاقتي بزمن المرحلة الأولى تبدو على قدر من التعقيد، لا ثقة لي بحلّ ألغازها في ما تبقّى من العمر. فالمكان الذي أنتسب إليه أباً عن جد اقتلعته سلطةُ صدام حسين من الجذور. وكم يشقّ على أحدنا، نحن أبناء الأحياء العريقة القديمة، أن يجدَ عن بيته الذي انتسب إليه بديلاً! وإذا استطعتُ ذلك حيثُ لا خيار، فكيف لي بالزمان الذي كنت أنتسبُ إليه، وقد تلاشى إلى الأبد! كان لي زورقٌ خشبي، شأن معظم أبناء العباسية، قُطع مربطُه هو الآخر، فانحدر مع التيار وتلاشى في البحر. ظلتْ صورةُ الزورقِ المنحدرِ المتلاشي استعارةً لا تزول من قصيدتي. هل هو الزمان الذي كان؟ الزمان الذي كنت إليه أنتسب؟

كلما قطعتُ شوطاً على ضفةِ نهر التَيمس، يشدني مشهدُ المراكب فيه وهي تتزاحم. ويشدني أكثر مشهدُ زورق صغير محاصرٍ في الزحمة، ما من منفذ لانحداره، ولتلاشيه في البحر.

كثيراً ما كنتُ أحاججُ النفس في مُعتَركي الداخليّ الذي لا ينتهي: هلْ من حياةٍ داخل بهو الزمن في هذه المكتبة العظمى؟ هل من حياةٍ في بهو الانتظار؟

نعم، حياةٌ أثرى وأغنى. كنتُ أجيبُ بقناعةٍ، لأني أشعرُ أنَّ معرفتي لمْ تعدْ تتّسعُ أُفقياً، وأن الشعرَ والفكرَ والفنَّ والموسيقى لا تقبل عليَّ بهيئةِ إجاباتٍ، بل بهيئةِ تساؤلات. والفضلُ يعود بذلك إلى الزمنِ الداخلي، زمن المنفى الذي تحدثت عنه. فهو زمنٌ تتحول المعرفةُ فيه لتصبحَ حكمةً. والثواني، الدقائقُ، الساعاتُ، الأيامُ، الشهورُ والسنوات لا تتلاحقُ ولا تتتابع، بل تتداخلُ كتداخلِ أصواتِ الموسيقى في الهارموني. ما من ثقافةٍ ولا مثقفين. صوتُ الموسيقى وحده يترددُ في الصمت، وعلى الجادة المُظلَلةِ تتحاور الألسنةُ في صباحٍ أثيني مبكّر.

«ما أوسعَ هذي الدنيا في عينِ الآمل!

ما أضيقها، في عينِ المتأمّل!»