حقوق الإنسان: الهاتف الغيبي!!
لفت انتباهي التقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية للعام 2008 تمهيداً للاحتفال بمضي 60 عاماً على اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من جانب الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، الذي طالبت فيه زعماء العالم بتقديم اعتذار عن ستة عقود من الإخفاق على صعيد حقوق الإنسان وإعادة إلزام أنفسهم بتحقيق تقدّم ملموس لسدّ الفجوة المتّسعة بين الوعد والإداء، لاسيما أن الظلم وانعدام المساواة والإفلات من العقاب مازال سمة مميزة وسائدة في عالمنا الراهن.ومن المفارقات أن يصادف إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام نفسه الذي تم فيه قيام دولة إسرائيل وتشريد الشعب العربي الفلسطيني في 15 مايو 1948، وتجدر الإشارة إلى أن الدول الموقعة على الإعلان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادرين عن الأمم المتحدة كاتفاقيتين دوليتين ملزمتين العام 1966، اللتين دخلتا حيّز النفاذ العام 1976، أخذت التزاماً على نفسها بإزالة كل نص يتعارض مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وإدخال ذلك في دساتيرها.
جدير بالذكر أن دولة إسرائيل تعتبر من الدول القليلة وربما النادرة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية ظلّت بلا دستور دائم أو مؤقت، أي أنها من دون قانون أساسي يحدد الحقوق والحريات، وإن التشريعات الإسرائيلية تتحاشى أي نص صريح أو واضح في ما يتعلق بمبدأ المساواة بغض النظر عن القومية أو الدين أو الجنس أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي، التي تؤكدها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. ولعل السبب في رفض إسرائيل إقرار دستور لها يعود إلى التهرب من المبادئ والالتزامات الدستورية التي تنادي بالمساواة وعدم التمييز واحترام حقوق الإنسان، تلك المبادئ التي ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة،حيث اشترط قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 على إسرائيل التواؤم معه.ومع أن العبرة ليست بإقرار المبادئ على أهميتها من الناحية الشكلية أو النظرية، بل في وضعها موضع التطبيق الفعال وبما ينسجم مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، تلك التي تقوم إسرائيل بخرقها يومياً وبانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني، إلاّ أن أي إقرار نظري باعتباره خطوة لا غنى عنها سيكون تمهيداً للمطالبة بوضعه موضع التنفيذ!لقد استند المشروع الصهيوني في انتهاكاته لحقوق الإنسان إلى ثلاثة أركان أساسية: الركن الأول حين كان يدعو إلى إنشاء دولة يهودية «نقية» بمعنى طرد العرب الفلسطينيين من أراضيهم وإجلائهم والاستيطان محلهم، وقد اكتسب وعد بلفور عام 1917 أهمية خاصة وعملية في تطور فكرة الدولة اليهودية التي دعا اليها عرّاب الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل في كتابه «دولة اليهود» عام 1896 والذي تبنّاه مؤتمر بال (سويسرا) 1897، وقد امتدت هذه المرحلة حتى قيام دولة إسرائيل عام 1948. الركن الثاني استند إلى فكرة إنشاء دولة يهودية «عالمية» بمعنى تمثيلها ليهود العالم دون الأخذ بنظر الاعتبار الحدود والبلدان والجنسيات، وقد استخدم الإيديولوجيون المعاصرون للصهيونية مصطلح «الأمة اليهودية العالمية- اللامكانية»، أي خارج نطاق الزمان والمكان (الزمكانية)، وكتب بن غوريون تأكيداً على هذه الفكرة يقول : «إن على اليهود في جميع أنحاء العالم تقديم المساعدة إلى إسرائيل سواءً رغبت في ذلك أم لم ترغب حكومات البلدان التي يقطنون فيها». وبهذا المعنى يكون على اليهود «واجبات» فرضتها عليهم الحركة الصهيونية برضائهم أو من دونه وبموافقة بلدانهم أو من دونها!الركن الثالث استند إلى فكرة إقامة «إسرائيل الكبرى» التي تمتد من النيل إلى الفرات، بمعنى تحقيق المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني التوسعي الإجلائي، لاسيما أن إسرائيل لم تضع حدوداً لها حتى بعد قيامها بقرار من الأمم المتحدة، الأمر الذي يعني التوسع على حساب البلدان العربية وهو ما أفرزته حرب العام 1948 حيث تمددت إسرائيل خلافاً لقرار الأمم المتحدة 181 على حساب ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية وعدوان عام 1956 على مصر وعدوان عام 1967 على الأمة العربية، وحرب عام 1973، وغزو لبنان عام 1982، وإبقاء قسم من أراضيه تحت الاحتلال، إضافة إلى الآراضي العربية المحتلة الأخرى، وكذلك العدوان على لبنان عام 2006 واستمرار احتلالها لمزارع شبعا والجولان السورية، هذا عدا الاعتداءات المتكررة على غزة ومحاصراتها منذ أكثر من ثمانية أشهر وانتهاكاتها السافرة للضفة الغربية، بل تهديدها للبلدان العربية، بما أضعف وعطل عملية التنمية والإصلاح والديمقراطية، التي وجدها بعض الحكام العرب مناسبة للتملص من الاستحقاق الداخلي لاحترام حقوق الإنسان بحجة الخطر الخارجي!لقد عملت الحركة الصهيونية في جميع المراحل دون أي مراعاة لحقوق الإنسان رغم أن إسرائيل تعهدت باحترام ميثاق الأمم المتحدة الذي كان شرطاً لقيامها، وذلك حين عمدت إلى احتلال الأرض، أي القيام بعملية الشراء والتملك وحرمان الفلاحين العرب منها، ولعل هذا الشعار كان مقدساً خلال فترة الانتداب البريطاني. كما سعت إلى احتلال العمل، أي طرد العمال العرب من أماكن عملهم وتضييق فرص العمل عليهم، وقامت بمقاطعة المنتجات والسلع والبضائع العربية، بما يؤدي إلى احتلال الإنتاج، وفي كل ذلك استهدفت إجلاء عرب فلسطين، الذين اضطروا إلى الهجرة «خوفاً من الموت» على حد تعبير المؤرخ البريطاني توينبي.ولتحقيق نجاحه سعى المشروع الصهيوني إلى الاعتماد على شرطين أساسيين يتعارضان بالكامل مع الفكرة الكونية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي نحتفل اليوم بالذكرى الستين لصدور الإعلان العالمي، الأول: خلق أغلبية يهودية في بلد أكثريته الساحقة من العرب لاسيما باستقدام المهاجرين اليهود والثاني: ضمان سيادة اليهود السياسية الذي أسماه بن غوريون المعجزة الصهيونية المزدوجة (اكتساب الأرض وإجبار العرب على الهروب) وهو ما عبّر عنه موشي ديان عقب عدوان 5 يونيو 1967 يتطلب مصيرنا في الحقيقة أن نحارب ضد العرب، وهو الذي دفع كتلة الليكود لاحقاً بزيادة لاءاتها بعدم الاعتراف وعدم التفاوض وعدم الانسحاب، الأمر الذي يجد بيئة مناسبة لحركات متطرفة وإرهابية مثل حركة كاهانا وغيرها، وحتى بعد اتفاق أوسلو كان هؤلاء يتشبثون برفض أي «تنازل» للفلسطينيين، رغم أن اتفاق أوسلو بحد ذاته لا يمثل حتى الحد الأدنى للشرعية الدولية، ناهيكم عن الاستجابة للحقوق الثابتة وغير القابلة للتصرف للشعب العربي الفلسطيني، وفي المقدمة منها حق تقرير المصير وحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.إذا كانت منظمة العفو الدولية قد طالبت زعماء العالم بالاعتذار بعد ستين سنة من الإخفاق، فإن على العالم أجمع لاسيما الدول المتسيّدة والمتنفذة التي رعت قيام دولة إسرائيل، خصوصا بريطانيا التي منحتها وعد بلفور «وعد من لا يملك لمن لا يستحق» على حد تعبير جمال عبد الناصر، والولايات المتحدة التي شجعتها على انتهاك حقوق الشعب العربي الفلسطيني والتجاوز على القانون الدولي، أقول إن عليها الاعتذار من الشعب العربي الفلسطيني بسبب الإنكار والجحود وهضم الحقوق كاملة وذبول الضمير «الهاتف الغيبي» على حد تعبير شارل مالك، خصوصاً بعد ستين سنة من العذاب والحرمان، وهو ما يحتاج إلى جهد جماعي دولي بما فيه مؤسسات المجتمع المدني وفي المقدمة منها منظمة العفو الدولية الرائدة في ميدان حقوق الإنسان!! * كاتب ومفكر عربي