ما قل ودل: الحكم بوقف التعامل في البورصة وأحكام الدستور (1- 3)
... والآن ما الذي يمكن أن نستخلصـه من الحكم الذي أصدرته الخميس الماضي الدائرة الإدارية بالمحكمة الكليـة بوقف التعامل بسوق الكويت للأوراق المالية، وتنفيذ هذا الحكم بموجب مسودته الأصليـة ودون إعـلان أو حتى شموله بالصيغة التنفيذيـة، تقديراً من المحكمة لظروف الاستعجال التي فرضتها الأزمـة المالية الحالية، وخصوصا بالنسبة لصغار المستثمرين، الذين عمت فرحتهم بهذا الحكم أملاً في أن يصل فريق العمل الذي يترأسـه محافظ البنك المركزي إلى حلول جذريـة وجريئـة للتخفيف من حدة الأزمـة الماليـة. -الرئيس روزفلت تدخل في أزمة 1929:
والواقع أن هذا الحكم، بتدخلـه في آليات السوق، وإيقافـه التعامل في بورصـة الأوراق المالية، قد أثار ضجـة كبيرة، تماثل الضجـة التي آثارها تدخل الرئيس فرانكلين روزفلت في توجيـه آليات السوق بتقديم عدد من مشروعات القوانين إلى الكونغرس الأميركي بتدخل الدولـة لتجاوز الأزمـة الاقتصاديـة العالميـة التي بدأت عام 1929، وهي القوانين التي وافق عليها الكونغرس، إلا أن المحكمة العليـا الأميركية قضت بعدم دستوريتها.فكان رد فعل الرئيس روزفلت بعد نجاحـه في الرئاسـة الثانيـة، هو تدخلـه بمشروع قانون لتعديل تشكيل المحكمة بتعيين أعضاء بالمحكمـة العليا الأميركيـة موالين له، فعيّن بجوار كل عضو بلغ من العمـر السبعين ولم يتقاعـد عضواً جديداً الأمر الذي كان مثار احتجاج عدد من القضاة القدامى بالمحكمـة الذين قدموا استقالاتهم، بالرغم من أن الكونغرس لم يوافق على هذا القانون. لتصبح الأغلبيـة إلى جانب الرئيس وبرنامجـه.-إلى أي مدى تكون حريـة السوق؟ وقد أثار الحكم الصادر في الكويت بإيقاف التعامل في سوق الكويت للأوراق المالية عدداً من القضايا المهمـة، التي تثيرها آليات السوق في النظام الرأسمالي، وإلى أي حد يكون تدخـل الدولـة، وهو سؤال طرحـه في المجلس التأسيسي عند وضع الدستور واحد من هؤلاء الرجال الذين شيّدوا النظامين الدستوري والاقتصادي فيها، وكان أحد أعمدتهما، هو المغفور له بإذن الله السيد عبد العزيز الصقر، وهو سؤال استغرقت المناقشات فيه ثلاثة اجتماعات للمجلس التأسيسي في 11/9 و 24/10 و3/11/1962، نرجئ تناولها إلى مقال قادم بإذن اللـه.امتناع الدولـة عن التدخل في الأزمـة: يقول الحكم في هذا الخصوص إن المدعي تقدم إلى مدير عام سوق الكويت للأوراق المالية بطلب لإيقاف التعامل في السوق مؤقتاً لحين بحث جميع جوانب المشاكل الإقتصاديـة ووضع حلول بشأنها. وأن المرسوم الصادر بتنظيم سوق الكويت للأوراق المالية قد أناط بلجنـة السوق وضع القواعد والسياسات والإجراءات ومن بينها «الإجراءات التي يتعين على السوق اتخاذها لمواجهـة أي ظروف استثنائية بما في ذلك وقف العمل مؤقتاً في السوق أو في أسهم شركة أو أكثر». ولأن لجنة السوق امتنعت عن اتخاذ هذا القرار، الأمر الذي يعتبر معه هذا الامتناع قراراً إداريا سلبياً، يجوز لكل ذي شأن أن يطعن فيه أمام القضاء. مسؤولية رئيس مجلس الوزراء ووزير التجارة: تقول المحكمة، بالنسبة إلى صحة اختصامهما في الدعوى، إن الدستور قد خوّل لمجلس الوزراء سلطة الهيمنـة والإشراف ووضع السياسـة العامـة التي يقوم- فيما بعد الوزير- كل حسب وزارته، بتنفيذها، ومن ذلك ما كان يتوجب على وزير التجارة والصناعـة أداؤه تجاه تلك الأزمـة، لاسيما أنه الرئيس الأعلى للسوق.تدخل الدولة يمليه الدستور الكويتي: تقول المحكمة إن المادة الثامنـة من الدستور الكويتي قد نصّت على أن تصون الدولـة دعامات المجتمع وتكفل الأمن وتكافؤ الفرص للمواطنين، كما نصّت المادة 20 منه على أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص. وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشـة وتحقيق الرخاء للمواطنين وذلك كله في حدود القانون». وحيث إنه يستفاد مما تقدم أنه على الدولة ممثلة في أجهزتها المختصـة صون دعامات المجتمع وكفالة الأمن والطمأنينة والعمل على تكافؤ الفرص بين المواطنين وحماية الاقتصاد الوطني بحسبانه أساس العدالة الاجتماعيـة وقوام التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص بغية تحقيق الرخاء للمواطنين في حدود القوانين المنظمـة لذلك.ولما كان ذلك وكان سوق الكويت للأوراق المالية أحد الأجهزة الإدارية التابعـة للدولة والمنوط به وفقاً للمرسوم الصادر بشأنه اختصاصات وسلطات حددتها أحكامـه من بينها ما تناولته المادتان 3، و6 المشار إليهما في تنظيم وحماية تداول العمليات المالية بالإطـار الذي أوجبته المادة 6 فيما أوردته الفقرة 10 من أن على إدارة السوق إتخاذ جميع الإجراءات لمواجهـة ثمة ظروف استثنائية بما في ذلك وقف العمل في السوق أو في أسهم شركة أو أكثـر.مخالفة سوق الكويت للأوراق المالية للقانون: تقول المحكمة: وحيث إنه استناداً إلى ما سلف وكان البادي من ظاهر الأوراق وبالقدر اللازم للفصل في الشق العاجل من الدعوى ودون المساس بالأصل في طلب الإلغاء حال نظره، أنه لا مراء بين أطراف الخصومـة في الدعوى في وجود أزمـة مالية عالمية محلها أسواق الأوراق المالية مضى على بدايتها ما يزيد على الشهر. إلا أن الأوراق قد خلت من أي إجراءات أو تدابير قد قامت بها إدارة السوق لمواجهـة هذه الأزمـة والتي عصفت ولاتزال بالكثير من أموال المساهمين والمتداولين وملاحقـة الآثار الناجمـة عن ذلك بحكم ما أوجبته الفقرة 10 من المادة 6 من المرسوم سالف الذكر. وسكوت جهة الإدارة المدعى عليها عن اتخاذ أي من تلك التدابير يغدو مخالفا صحيح حكم القانون المنظم لذلك بالمرسوم المشار إليه سلفاً ويتوافر بذلك ركن الجديـة اللازم للحكم بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه والمطلوب إلغاؤه. ولا يغير من ذلك ما ساقه الدفاع من المدعي عليهم بصفتهم من أن الإجراء المتعلق بوقف التداول يؤثر في الشركات المدرجـة في السوق. إذ إن مقصود المشرع، وهو حمايـة المجتمع وكيانه الاقتصادي بما يستتبع ذلك من استقرار المراكز القانونية للأفراد فيه.مبررات الاستعجال في تنفيذ الحكم: وبررت المحكمـة إصدار حكمها بوقف تنفيذ القرار السلبي للسوق بالامتناع عن إصدار قرار بوقف التداول اليومي في سوق الكويت للأوراق المالية، حتى يتم الفصل في دعوى إلغاء هذا القرار والتي حددت نظرها جلسة اليوم، بقولها:وحيث إنه عن ركن الاستعجال... فإن الظاهر من الأوراق أن سوق الكويت للأوراق المالية قد تراجعت مؤشراته وهبطت إلى أدنى المستويات في التداول بما هو معلوم للجميع، بالإضافـة إلى ما أوردته البيانات الصادرة عن الخصوم مما يترتب على عدم تنفيذ القرار المطعون فيه نتائج يتعذر تداركها، فيما لو لم يقض بوقف النفاذ، ويغدو الحكم بوقف تنفيذ القرار سالف البيان قد استقـام على ركنيه (الجدية والاستعجال)، مما يتعين معه الحكم بوقف تنفيذه مؤقتاً لحين نظر موضوع الدعوى وما يترتب على ذلك من آثار، أهمها إلزام جهة الإدارة المدعى عليها بتقديم الإجراءات والتدابير التي انتهجتها لمواجهـة ومعالجـة الآثار المترتبـة على الأزمـة المالية والاقتصاديـة.وللحديث بقيـة عن موقف الدستور الكويتي من تدخل الدولة في السوق وفقاً لنصوصه ومذكرته التفسيريـة ومناقشات المجلس التأسيسي.