«قرافة» القاهرة أو «قرافة المماليك»، كانت أوائل القرن الثامن الهجري «١٤م» مجرد منطقة صحراوية، تمتد من قلعة الجبل إلى ميدان العباسية الحالي، واستغلها أمراء المماليك أولا في لعب الكرة من فوق الخيل، ومن ثم عرفت باسم ميدان القبق أو ميدان العيد. وبعد ازدحام القاهرة بالعمائر، لجأ سلاطين وأمراء المماليك إلى هذه المنطقة الفسيحة، وبدأوا تشييد المساجد والمدارس والبيوت وألحقوا بها مدافن لهم ولذا عرفت باسم القرافة، ورغم ما أصاب العديد من عمائر المماليك من دمار وخراب، فإن ما تبقى منها يظل من أهم العمائر الإسلامية التي يندر أن نراها مجتمعة بهذا الكم على صعيد واحد.
والسلطان الأشرف قايتباي - الذي تولى بين عامي 872 هـ «1268 م» و901هـ «1466 م» - أكثر من عنى بإنشاء العمائر بالقرافة، إذ شيد بها ربعا كبيرا لسكنى الفقراء، وحوضا لشرب الدواب وسبيلا للماء ومقعدا ومدفنا لأسرته وقبة للشيخ عبدالله المنوفي، وربعا آخر لإقامة الصوفية، ودرة عمارة تلك المنطقة وهي المدرسة التي نرى رسمها على العملات المصرية من فئة الجنيه. ولهذه المدرسة مئذنة رشيقة سامقة إلى يمين المدخل الرئيسي لمدرسة قايتباي بالقرافة، وتعد من أجمل المآذن التي شيدها المماليك بمصر.. وتقوم على قاعدة مربعة قصيرة، شطفت أركانها الأربعة لتأخذ هيئة مثلث مقلوب، وأدى ذلك إلى تحويل قمة القاعدة المربعة إلى مثمن، شيد فوقه الطابق الأول من المئذنة والذي اتخذ شكل المثمن، وازدان كل وجه من أوجه هذا الطابق بشكل حنية محراب حمل عقدها المدبب على زوجين من الأعمدة القصيرة المدمجة، وقد استخدم في زخرفة هذا الجزء عنصر زخرفي من قضبان متوازية، تتلاقى مع بعضها في مناطق دائرية ويعرف هذا العنصر في وثائق العصر المملوكي باسم « جفت لاعب» ، كما يزدان هذا الطابق أيضا بكتابات نسخية تحوي آيات من القرآن الكريم. وينتهي الطابق الأول المثمن بأربعة صفوف من المقرنصات الحجرية الدقيقة، تحمل شرفة الأذان الأولى التي أحيطت بدرابزين حجري زخارفه الهندسية مفرغة باتقان.. وبعد هذه الشرفة يأتي الطابق الثاني الذي يتخذ هيئة أسطوانية مستديرة، ويزدان بدن هذه الدورة بزخارف « الأرابيسك» التي حفرت في الحجر بمنتهى الاتقان. ثم تنتهي الدورة الثانية بأربعة صفوف من المقرنصات الحجرية تحمل شرفة الأذان الثانية. وقد جاءت بمقرنصاتها ودرابزينها الحجري مماثلة لشرفة الأذان الأولى.. وأخيرا تنتهي المئذنة الرشيقة بجوسق مؤلف من ثمانية أعمدة رخامية، تحمل قبة صغيرة تعرف في مصطلح العمارة المملوكية باسم القلة. وتعد مئذنة قايتباي من أجمل المآذن المصرية وأكثرها نضجا من الناحية الفنية، حيث التناسب المدروس بين ارتفاعها وسمك جدران دوراتها، فضلا عن زخارفها الهندسية والبنائية والكتابية البديعة، وحرص المعماري على أن يستخدم في تشييدها مداميك متعاقبة من أحجار صفراء وحمراء، وهو أسلوب بنائي اشتهرت به منشآت المماليك ويعرف باسم النظام المشهر. وكان مؤذن هذه المئذنة، خلال عصر قايتباي ثم ولده محمد من بعده، يجيد الخط العربي وينقشه على الحجر، ويظهر أنه كان يقضي الفراغ بين مواقيت الصلاة في نقش الأحجار، وقد نقش هذا المؤذن آيات من القرآن الكريم وبعضا من حكم العرب على باب المئذنة، ومدخلها الحجري وباب دورتها الأولى المفضي إلى شرفة الأذان، وقاعدة القبة، ووقع المؤذن على هذه النقوش باسمه فيقول تارة « نقشه محمد الشبيني»، وتارة أخرى كتبه بيده الفانية محمد الشبيني المؤذن ، وتحمل توقيعاته توقيتات مختلفة في سنوات 885 هـ و904 هـ و911 هـ أي على مدى 26 عاما. ويبدو أن السلطان قايتباي قد تخفف من الشروط الدقيقة التي كانت تفترض فيمن يتولى وظيفة المؤذن، وبالتحديد شرط أن يكون كريم العينين « من الذين كف بصرهم» ، فقد كان أصحاب « الأوقاف يراعون ذلك بدقة في المساجد والمدارس التي تقع وسط منازل الأهالي» ، ولكن وقوع المدرسة في الصحراء ووسط منشآت دينية وجنائزية لم يجعل لهذا الشرط معنى، مما أتاح لهذا المؤذن الفنان أن يلتحق بهذه الوظيفة التي شغلها أكثر من ربع قرن. ومن المعروف أن تشييد هذه المدرسة استغرق قرابة العامين، إذ تم افتتاحها في شهر رجب سنة 879 هـ «1474 م» ، وهي ضمن مجموعة معمارية تضم إلى جانب المدرسة سبيل ماء يعلوه كتاب « مكتب لتعليم الأطفال» وقبة ضريحية للسلطان وأولاده.. ولهذه المدرسة واجهتان، الشمالية منهما هي الرئيسية وبها الباب الذي حلى عتبة بالرخام الملون والكتابات، وتغطي الباب حنية بها مقرنصات وطاقية ملبسة بالحجرين الأبيض والأحمر، وعلى يسار المدخل نجد السبيل والكتاب الذي يعلوه. ويتألف تخطيط المدرسة من صحن أوسط، تحيط به أربعة إيوانات على غرار تصميم المدارس المملوكية، وفرشت أرضية الصحن برخام ملون، مثل شأن بقية الإيوانات مع اختلاف ألوان وزخارف رخام الأرضيات، ويغطي الصحن سقف يتوسطه منور، ونقش بزخارف ملونة ومذهبة، ويحيط بالصحن أربعة إيوانات تطل عليه بعقود مدببة، وهي من أجمل إيوانات المدارس المملوكية بما حوته من نقوش وشبابيك جصية، وقد نقش على وجه عقودها حول الصحن بالخط النسخي، ما نصه « بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم..» - إلى آخر آية الكرسي - ثم نص إنشاء المدرسة « أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة سيدنا ومولانا وملك رقابنا السلطان المالك الملك الأشرف أبو النصر قايتباي سلطان الإسلام والمسلمين أبو الفقراء والمساكين ناصر الدنيا والدين سيدنا ومولانا الإمام الأعظم المالك الملك الأشرف أبو النصر قايتباي عز نصره بتاريخ رمضان المعظم سنة سبع وسبعين وثمانمائة». وكانت إيوانات هذه المدرسة مزودة بمجموعة قيمة من الشمعدانات والثريات النحاسية، والمشكاوات المعلقة في كرات من الخزف القاشاني، وحمل بعضها أو ما تبقى منها إلى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة.. وتحتفظ المدرسة بمنبر خشبي دقيق جميع حشوات جوانبه ودرابزينه وأبوابه من السن المدقوق أويمة دقيقة، ومن أسف أن قوائمه وخوذته سرقت في وقت غير معلوم. وتقع القبة في الناحية الجنوبية من الإيوان الشرقي للمدرسة، وهي عالية ونقشت أحجارها من الخارج بزخارف هندسية بديعة، كما نقشت من الداخل بزخارف مذهبة ملونة، وبها مجموعة من الشبابيك الجصية الدقية.. وأحطيت جدران مربع القبة بوزرة رخامية، تنتهي بإفريز سجل عليه نص إنشائي يشير إلى ا لسلطان قايتباي بوصفه « ملك البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين سيد ملوك العرب والعجم السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي أعز الله تعالى أنصاره وختم بالصالحات أعمالنا وأعماله..» وبهذه القبة الضريحية كرسي للمصحف طعمت جميع أجزائه بالسن المدقوق أويمة مثل المنبر، وبه نص إنشائي يفيد بصناعته في عام ٨٧٨ هـ. ويجاور قبر قايتباي قبة صغيرة نحاسية مذهبة، تحتها حجر أسود به أثر قدمين يقال إنهما للنبي صلى الله عليه وسلم, ثم قبة أخرى خشبية على شكل مسلة بها حجر عليه أثر قدم، يقال إنها قدم الخليل إبراهيم عليه السلام، وكلا القولين غير صحيح. نقل السلطان العثماني أحمد الأول حجر القدم الأولى في عام 1024 هـ إلى القسطنطينية ثم أمر بعد ذلك برده إلى محله وجعل عليه قبة مكتوبا عليها بعض أبيات الشعر. وكانت مدرسة قايتباي على الدوام موضع اهتمام زوار القاهرة في العصور الوسطى، وقصدها المسلمون لمشاهدة حجر القدم، فيما ارتادها الرحالة الأجانب لمعاينة عمارتها وزخارفها، ويندر أن تصادف واحدا من الرحالة الأجانب لم يدفعه الانبهار بالمدرسة وعمارتها، إلى تسجيل ذلك بالقلم أو بالريشة، حتى أصبح لدينا سجل واف من الصور التي تبين الحالة المعمارية للمدرسة وخاصة في القرن التاسع عشر. وقد نالت مجموعة قايتباي عناية واجبة من لجنة حفظ الآثار المصرية، التي أجرت إصلاحات شاملة فيها لمدة أربع سنوات «93 م - 1897» ، شملت تقوية الجدران وإصلاح المئذنة.
توابل
مآذن لها تاريخ مئذنة مدرسة قايتباي في القاهرة
11-09-2008