الأخلاق والانهيار
بعد الحرب العالمية الأولى كتب هـ. ج. ويلز واصفاً إياها: «كان الأمر سباقاً بين الأخلاق والدمار. وكان لزاماً على الإنسانية أن تتخلى عن ولعها بالحرب وإلا فإن مصيرها كان إلى الهلاك على يد التكنولوجيا».بيد أن الكتابات الاقتصادية نقلت إلينا صورة مختلفة تمام الاختلاف للعالم. فهنا كانت التكنولوجيا عبارة عن مَلِك يستحق الـمُلك. «كان بروميثيوس ملكاً محباً للخير نشر ثمار التقدم بين رعيته». في عالم أهل الاقتصاد، لا ينبغي للأخلاق أن تسعى إلى فرض سيطرتها على التكنولوجيا، ولكن يتعين عليها أن تتكيف مع مطالبها. ومن خلال ذلك فقط يصبح من الممكن ضمان النمو الاقتصادي والقضاء على الفقر. وهنا تتلاشى الأخلاق التقليدية بينما تعمل التكنولوجيا على مضاعفة الطاقة الإنتاجية.
لقد تشبثنا بعقيدتنا في الخلاص التكنولوجي بينما فترت العقائد القديمة وتعاظمت قدرة التكنولوجيا على الإبداع والابتكار. ومن هنا كان إيماننا بالسوق- التي لعبت دور القابلة في تلقيها للإبداع التكنولوجي. وباسم هذا الإيمان تبنينا العولمة، التي تشكل أعرض امتداد ممكن لاقتصاد السوق.ومن أجل العولمة تبدلت طبيعة المجتمعات الإنسانية، وانتقلت الوظائف إلى خارج البلاد، وأصبحت المهارات خاضعة لحالة مستمرة من إعادة الصياغة والتكوين. وزعم أنصار العولمة أن الأضرار الشاملة التي لحقت بأغلب ما كان يضفي على الحياة معنى ومغزى أمر ضروري لتحقيق «الكفاءة في تخصيص رأس المال» و»الحد من تكاليف المعاملات التجارية». وكل ما يتعارض مع هذا المنطق من الأخلاقيات فقد وُصِم بأنه يشكل «عقبة أمام التقدم». وتحول مبدأ الحماية واجب القوي في حماية الضعيف إلى مبدأ الحمائية، وهو مبدأ شرير لا ينتج إلا الحروب والفساد.وأن نقول إن الانهيار المالي الذي يشهده العالم اليوم هو في واقع الأمر نتيجة مباشرة لعبادة الغرب لآلهة زائفة فهو افتراض غير قابل للمناقشة، ناهيك عن الاعتراف به. وتشكل «فرضية كفاءة السوق» أحد أبرز هذه الآلهة الاعتقاد بأن السوق قادرة على تسعير المعاملات كلها بدقة في كل وقت، مع استبعاد فترات الازدهار والكساد، وحالات الهوس والذعر. إن اللغة الدينية التي ربما كانت لتشجب الأزمة الائتمانية بوصفها «ثمن الخطيئة» أو العقاب الطبيعي للانغماس في التبذير والإسراف، أصبحت غير صالحة للاستعمال.ولكن فلنتأمل كيف تحول مصطلح «الدَين» (الخطيئة الأصلية التي ارتكبها الشيطان، المرابي الأعظم، في حق الرب) إلى «رافعة مالية»، وهي استعارة من الهندسة التي حوَّلَت الوصية التقليدية بتجنب «التورط في الدَيون» إلى واجب افتراضي. فالتورط في الديون يغذي الإغراء المزدوج المتمثل في حصول المرء على ما يرغب فيه بأسرع وقت ممكن فضلاً عن حصوله على «شيء في مقابل لا شيء».كان الإبداع المالي سبباً في توسيع نطاق هذين النوعين من الإغراء. فقد عَمِل الصبية من جهابذة الرياضيات على ابتكار الأدوات المالية الجديدة التي نجحت في كسر حواجز الحيطة والحكمة وضبط النفس حين وعدت بتخليص الدَين من عواقبه السيئة. وباع «تجار الدَين»، كما وصفهم رجل الاقتصاد العظيم هيمان مينسكي، منتجاتهم السامة ليس فقط للسذج والجهلة، بل وأيضاً للشركات الجشعة والأفراد الذين يفترض فيهم الحكمة والوعي.وكانت النتيجة هذا الانتشار العالمي لأدوات التمويل الاحتيالي- على طريقة تشارلز بونزي، المحتال الأميركي من أصل إيطالي، الذي استحق سمعته السيئة بجدارة- التي ادعت القدرة على جعل الأوراق المالية آمنة وراسخة القيمة مثلها كمثل المساكن. وفي المقابل كان الصينيون المستقيمون أخلاقياً والذين حرصوا على ادخار قسم ضخم من دخولهم هدفاً للانتقاد والتقريع والتأنيب من جانب الاقتصاديين الغربيين لأنهم أخفقوا في الانتباه إلى أن واجبهم في خدمة الإنسانية لابد أن يكون الإنفاق ولا شيء غير الإنفاق.كانت النقطة النظرية الرئيسية في التحول إلى الاقتصاد القائم على الدَين تتلخص في إعادة تعريف عدم اليقين بمصطلح «المجازفة». وكان هذا هو الإنجاز الرئيسي لاقتصاد الرياضيات. وبينما تحول الحذر والحيطة في التعامل مع عدم اليقين إلى قضية أخلاقية، أصبحت محاولات الوقاية من المجازفة عبارة عن مسألة تقنية بحتة. إن المجهول الرئيسي في حياة الإنسان- أو مصير الروح البشرية الخالدة- لابد أن يدفع المرء نحو التشبث بالأخلاق. حتى أن مجرد وجود المجهولات الدنيوية لابد أن يبرز أهمية المواثيق والتقاليد الراسخة والقواعد الثابتة التي تجسد أفضل التجارب البشرية في التعامل مع المجهول. وعلى هذا فقد زالت الحاجة إلى القواعد الأخلاقية بزوال عدم اليقين.والآن ربما أصبح من الممكن تحليل أحداث المستقبل إلى مجازفة محسوبة، وأصبح من الممكن تطوير الاستراتيجيات والأدوات على النحو الذي يجعلها قادرة على تغطية النطاق الكامل من «أفضليات المجازفة». فضلاً عن ذلك، ولأن التنافس بين الوسطاء الماليين لابد أن يؤدي إلى انخفاض «سعر المجازفة» على نحو مضطرد، فقد أصبح المستقبل خالياً من المجازفة (من حيث النظرية).إن هذا القدر الهائل من الغرور الذي اتسم به الاقتصاد المعاصر كان سبباً في دفع العالم إلى حافة الكارثة. ومن الواضح أن المحظورات الأخلاقية التقليدية التي تحيط بالمال كان لابد من تخفيفها والتهوين من شأنها حتى تتمكن الرأسمالية من الانطلاق قبل قرون مضت. على سبيل المثال، تضاءل تحريم الربا التقليدي من حظر تقاضي الفائدة على كل القروض إلى حظر تقاضي الفائدة على القروض التي لا يجد الـمُقرِض بديلاً لاستخدامها أو الاستفادة منها، مثل تحصيل الفائدة على المدخرات أو الأرصدة النقدية.إن العالم كان ليصبح مكاناً أكثر فقراً مما هو عليه الآن لو لم نبتكر أدوات تمويل الديون. ولكن الانتقال من أحد طرفي النقيض (حفظ الأموال المدخرة تحت الفراش) إلى طرفه الآخر (توزيع قروض لا نملكها) يتجاوز كل حدود الوسطية المعقولة.إن النظام الإشرافي المتعقل الذي تبناه بنك إسبانيا في استجابته للأزمة المصرفية التي ضربت إسبانيا أثناء ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ليبين لنا كيف ينبغي أن تكون الوسطية المعقولة. إذ كان لزاماً على البنوك الإسبانية أن تعمل على زيادة ودائعها بما يتناسب مع القروض التي تقدمها وأن تخصص قدراً معيناً من رأس المال يتناسب مع الأصول التي تمتلكها خارج دفاتر موازناتها.ومع تضاؤل الحافز إلى ابتكار «أدوات استثمار مفصلة»، تضاءل اهتمام البنوك الإسبانية بإنشائها، فتجنبت بذلك الإفراط في الاستدانة. ونتيجة لهذا فإن البنوك الإسبانية تخصص اعتمادات تغطي 150% من الديون السيئة، بينما تغطي البنوك البريطانية ما لا يزيد على 80 إلى 100% منها. كما بات لزاماً على مشتري المساكن في إسبانيا أن يسددوا ما بين 20% إلى 30% من سعر المسكن كدفعة أولى، بينما في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانت البنوك والمؤسسات عادة تمنح مشتري المساكن 100% من قرض الرهن العقاري في السنوات الأخيرة.كان هـ. ج. ويلز مصيباً في جزء فقط من رأيه: فالسباق بين الأخلاق والدمار لا يدور أثناء الحروب فقط، بل وأيضاً في الحياة الاقتصادية. ومادمنا نعتمد على الحلول التقنية لسد الفجوات الأخلاقية ومادامت الحكومات تسارع إلى تقديم حِزَم الإنقاذ التي تُـمَكِن اللعبة المحيرة نفسها من استئناف دورانها من جديد، فلسوف نستمر في الترنح بين فترات سُـعار تتخللها فترات انهيار. بيد أننا عند نقطة ما سوف نجد أنفسنا في مواجهة حدود للنمو لا نستطيع أن نتجاوزها.*روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري بجامعة وارويك. «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»