... ويبقى السؤال الأكبر: إلى أي مدى تستطيع إدارة الرئيس الأميركي أوباما أن تذهب في ممارسة الضغط على إسرائيل؟ صحيح أن واشنطن أظهرت بشكل علني غير رسمي تأففها وضجرها من الموقف الإسرائيلي المبهم حيال مشاريع السلام القائمة على استرداد جزء من الأرض العربية... وصحيح أن أوباما شخصياً دخل في صراع علني مع النفوذ الصهيوني في بلاده. كذلك صحيح أن نوايا الرئيس الأميركي حسنة لضرورات أميركية استراتيجية، لكن الصحيح أيضاً أن إسرائيل بدأت تسبح مع هذا التيار الأميركي الجديد، وتسعى في الوقت الحاضر نفسه إلى تحويله لمصلحتها، كما فعلت ذلك بنجاح أكثر من مرة خلال عهود أميركية سابقة.

Ad

إن الجواب عن السؤال المطروح سيتبلور بعد انتهاء نقاشات أوباما مع نتنياهو التي بدأت يوم الاثنين الماضي في واشنطن، غير أن المطلوب اليوم من «القط» الأميركي أن يحاصر «الفأر» الصهيوني لمنعه من الهروب إلى متاهات النقاشات الإيديولوجية والعاطفية كسباً للوقت الذي أصبحت إسرائيل على قناعة تامة بأنه لم يعد يعمل لمصلحتها، وستجد واشنطن نفسها في نهاية المطاف أمام خيارين: إما أن تتراخى- كعادتها- أمام الضغط الصهيوني الداخلي وتترك الفأر الإسرائيلي يجرها إلى غابة من الوعود والعهود الفارغة المضمون، وإما أن تأخذ موقفاً حازماً فتربط السلام بصيغة استمرار «العلاقات الأخوية» مع الدولة العبرية. وفي الحالتين، فإن حكومة نتنياهو قد أُعطيتْ الوقت الكافي لمقاومة الاستراتيجية الأوبامية الجديدة، وستستمر في سياسة عدم الاستسلام بكل ما لديها من أوراق قوة ونفوذ، لذلك من واجب العرب المسارعة إلى توسيع هذا الخلاف لأنه يمثل فرصة العمر لإحداث شروخ في البنية السياسية الأميركية-الإسرائيلية.

إن العمل على زيادة هوّة عدم التفاهم بين واشنطن وتل أبيب هو بحد ذاته عمل سياسي كبير يستأهل المراهنة عليه، ولكن ليس لوقت طويل، فلنجرب طالما أن الأجواء باتت مناسبة، وإسرائيل أعلنت «تمردها» ليس على الولايات المتحدة فقط بل على المجتمع الدولي برمته.

فالإدارة الأميركية قد أظهرت تململاً مكشوفاً تجاه التمرد الإسرائيلي، وكذلك فعل المجتمع الدولي، وواشنطن اليوم بصدد تجميع أوراقها الدولية للضغط على المتمردين وإعادتهم إلى حظيرتها، فالعالم، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، قد تعب إلى درجة الإنهاك من استمرار الأزمة، وبدأ يعي حقائقها ومنها أن إسرائيل غير مستعدة لهضم فكرة السلام إلا على شروطها المؤدية إلى استسلام كل العرب وكل المسلمين في العالم، لذلك فإن نتنياهو قد يجد نفسه، في زيارته الأولى لواشنطن بعد توليه رئاسة الحكومة، غير قادر على التهرب أو الهروب.

ظواهر المتغيرات الكثيرة في السياسة الأميركية صارت واضحة، فالرئيس الأميركي «وضع بشكل واضح سلسلة أولوياته استعدادا لزيارة نتنياهو في 18 مايو». وخلال حديثه مع الناشطين اليهود أخيراً قال نائبه بايدن: «لن تحبوا ما سأقوله لكم». ثم وضع أمامهم لائحة الأولويات الأميركية «إذا كان هناك من بحث جدي بالسلام مع الفلسطينيين فإن إسرائيل يجب أن تعمل في إطار الدولتين. ويجب على إسرائيل أن تجمّد مشاريعها لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وأن تزيل الحواجز بين المدن والبلدات الفلسطينية، ويجب عليها أيضاً أن تعطي الفلسطينيين صلاحيات أمنية أوسع يسمح لهم بحفظ أمنهم وأمن إسرائيل معاً». (افتتاحية النيويورك تايمز في 12 مايو الحالي).

ما قاله بايدن لا يجب «أن يعتبره نتنياهو أخباراً جديدة» (تضيف الجريدة)، فقد أُبلغ به مسبقاً بصورة رسمية منذ عدة أسابيع، ولذلك أرسل شمعون بيريز للتأكد أولاً من دقة ما سمعه، وبالتالي محاولة خلق موجة مغايرة للتوجه الأميركي تعطي نتنياهو فرصة الهروب من الحصار الأميركي السياسي الذي وجد نفسه فيه، وهذا يعني قطع الطريق على محاولات اللف والدوران وإعطاء الوعود المبهمة، فإذا «كان جاداً في استئناف مفاوضات السلام، فعليه أن يخطو الخطوة الأولى لتنفيذ أجندة أوباما». وإلا فإن هوّة عدم التفاهم ستتسع، وفي حال رفضه لهذه الأجندة فإن هذا الرفض سيكون اختباراً حقيقياً لقدرة أوباما على الوقوف في وجه «اللوبي الصهيوني» الأميركي، وفي كلا الأمرين فإن العرب هم الرابحون لأنهم على الأقل سيمتلكون وضوحاً في الرؤية المستقبلية، وفي قناعة البعض فإن مثل هذا الوضوح ضروري وحيوي للعرب اليوم كي يضعوا في ضوئها الأجندة الخاصة بهم. هذا إذا كان هناك من أجندة محددة.

تتابع (نيويورك تايمز): «هناك اختلافات أخرى تهدد لقاء الأسبوع القادم (أوباما-نتنياهو) أحدها قرار الرئيس بالوصول إلى طهران بواسطة الدبلوماسية. وهذا الأمر لا يرتاح إليه نتنياهو الذي قد يحاول ربط بحث السلام بشرط نجاح أوباما بوقف النشاط النووي الإيراني أولاً. إن وقف هذا النشاط ضروري... لكن السيد نتنياهو يجب ألا يعرقل جهود أوباما في محاولاته للسلام مع إيران، كذلك على أوباما ألا يشجع تحركات نتنياهو لقيادة إسرائيل، أو دفع الولايات المتحدة، إلى عمل عسكري غير ضروري».

واشنطن رتّبت أوراقها الضاغطة قبل وصول نتنياهو إليها، غير أن هذه الأوراق، في حال قبول نتنياهو بجزء منها، فهي لا ترضي الحدّ الادنى من المطالب العربية والفلسطينية. العاصمة الأميركية نجحت في تجييش دبلوماسييها السابقين من ذوي السمعة الحسنة داخل المجتمع الأميركي، والذين عملوا في الشرق الأوسط ويملكون فرصاً جيدة لاختراق اللوبي الصهيوني. هؤلاء شنوا الهجوم الأول حين بعثوا برسالة إلى أوباما تمّ نشرها على «الإنترنت» تنصحه بتقديم مبادرة أميركية جديدة من خمسة بنود:

1- البدء حالاً بتجديد الوساطة الأميركية على أساس قيام الدولتين.

2- وقف الهجمات الإرهابية الفلسطينية على الإسرائيليين، ووقف تهريب الأسلحة إلى غزة، وزيادة عدد الفلسطينيين المدربين أميركياً في أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية.

3- تجميد بناء المستعمرات في الضفة وإزالة مراكز التفتيش الإسرائيلية والمستعمرات غير الشرعية ووقف هدم منازل الفلسطينيين في شرق مدينة القدس.

4- العمل بسرعة على إعادة تعمير غزة والتركيز على احتياجات المدنيين وعلى الاقتصاد المحلي.

5- متابعة العمل على إقامة سلام شامل ودائم بين إسرائيل وجيرانها خصوصا سورية مع اعتماد المبادرة العربية قاعدة للمفاوضات.

وفي الرسالة التي تحمل تواقيعهم وعلى رأسهم «توماس بيكرنغ» و«روبرت بوليترو» و«صامويل لويس» وغيرهم، قال هؤلاء للرئيس أوباما إن هناك تأييداً كبيراً بين صنّاع القرار لدعم مبادرته لإقامة الدولتين. «ونحن نعتقد أن هذه الصيغة (النقاط الخمس) تحقق مصالح أميركا في الشرق الأوسط بأكمله وبالتالي تؤكد للإسرائيليين حماية مصالحهم خلال مفاوضات السلام مع جيرانهم».

الملاحظة الأولى: أن مبادرة السفراء، التي سوف يعتمدها أوباما في الصياغة النهائية لمبادرته الجديدة، لم تلحظ أشياء كثيرة سبق للولايات المتحدة ولمجلس الأمن أن وافقوا عليها، منها تجاهل القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين، ومنها أيضاً حق العودة مما يعني أن العرب، في حال موافقتهم عليها، يدفنون بأيديهم جهود ستين سنة من العمل الدبلوماسي المتواصل ويبدؤون من نقطة الصفر، وبذلك يحققون التكتيك الذي تسعى إسرائيل إلى جرّ الولايات المتحدة إليه في كسب مرحلة جديدة من الوقت. أي تأجيل الحل واستمرار الصراع.

إن الحوار العربي على مستوى القمة الذي شهدناه في الأسابيع الماضية دار حول روحية مبادرة السفراء الأميركيين، وهي عملية «جس نبض» أميركي غير رسمي، فإذا لاقت القبول العربي تتحول بمعظم بنودها إلى مبادرة رسمية تحمل اسم أوباما، وإذا لم تلاق الإجماع العربي يتبرأ منها أوباما بعد أن يكون قد حقق ما وعد به في إيجاد دينامية أميركية جديدة في أزمة الشرق الأوسط بعيداً عن الإحراج العلني.

أما بالنسبة إلى نتنياهو فإن مبادرة السفراء، في حال تبنيها عربياً وأميركياً على مستوى الرؤساء، تحقق ما يصبو إليه في تجميد وضع المستعمرات غير الشرعية، وتعطيه فسحة كبيرة من الوقت لهضم هذه الوجبة الدسمة بانتظار ما تأتي به الأيام من وجبات أخرى. لذلك فإن من المتوقع أن يوافق نتنياهو على روح هذه المبادرة خصوصا أنها قد تساهم في تخفيف الضغط الأميركي والدولي على إسرائيل. إن مقاومة هذه الصيغة الأميركية-الإسرائيلية الخبيثة تستدعي تجميد الوضع العربي المنقسم على نفسه، لأن استمرار الانقسام، في هذا الوقت بالذات، من شأنه أن يفسد «المؤامرة» الجديدة... ذلك لأن المطلوب هو الإجماع العربي، ولا شيء أقل من الإجماع.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء