جاءت الجدة من الريف لزيارة أسرة ابنتها في شنغهاي، حاملة معها للأسرة، على سبيل الهدية، دجاجة صغيرة.

Ad

ويبدو أن الجدة كانت مضطرة لجلب هذه الهدية الثمينة، فهي لشدة فقرها لم تعد تستطيع توفير الطعام للدجاجة، ولأنها قد رعتها منذ كان عمرها يومين فإن قلبها لم يطاوعها على ذبحها وطبخها.

وقد كتب لهذه الدجاجة أن تبقى على قيد الحياة، لأن ربة الأسرة رفضت أن تذبحها، لكي تجنب أطفالها رؤية مشهد القتل، فظلت الدجاجة تزحم البيت برائحة مخلفاتها، حتى قررت الأسرة أن تبيعها لتتخلص منها، لكنها تراجعت عن هذا القرار عندما وضعت الدجاجة بيضتها الأولى، ذلك لأن قيمة البيضة في السوق كانت أعلى قليلا من قيمة المواطن الصيني في أيام الزعيم الأوحد "ماوتسي تونغ"، غير أن هذه الدجاجة تحولت، بعد ذلك، إلى أزمة خطيرة كادت تعصف بمستقبل الأسرة، فقد صدر قرار حزبي بإخلاء البيوت من الدواجن، وكان من الصعب إخفاؤها طويلا، لأنها كانت تفضح وجودها بقأقأتها المتواصلة، الأمر الذي دعا اللجنة الحزبية في المنطقة إلى إرسال وفد لمنزل الأسرة لأخذ تعهد قاطع بالتخلص منها، وعرضها مذبوحة على مسؤول الحزب في صباح اليوم التالي، وإلا اتهمت الأسرة كلها بالعصيان!

وفي الصباح هيأت الابنة الكبرى "آنتشي" الماء الساخن والسكين، وقبضت على الدجاجة بغية ذبحها، لكن هذه عندما أحست بقرب أجلها، قفزت هاربة إلى غصن شجرة في باحة البيت، وتنقلت صاعدة من غصن إلى آخر، حتى بلغت ذروة الشجرة، في الوقت الذي كان فيه المسؤول الحزبي يقرع جرس الباب.

وفي حيرة "آنتشي" بين الدجاجة الهاربة وبين المسؤول المنتظر، حاولت جاهدة أن تلفق عذرا مقبولا تدفع به عن أسرتها تهمة العصيان، لكنها في تلك اللحظة بالذات، سمعت صوت ارتطام الدجاجة بالأرض، والتفتت فرأتها تنتفض، ثم ما لبثت أن سكنت إلى الأبد.

لقد كانت هذه أول دجاجة في التاريخ تقدم على الانتحار احتجاجاً على استبداد السلطة!

وإذا كان هذا هو حال الدجاجة في ظل ذلك النظام الشمولي المطلق، فكيف، إذن، كان حال الإنسان؟!

الكاتبة الصينية "آنتشي مين" تعرض لنا في كتابها الفريد "الأزاليا الحمراء" صورا بليغة لمأساة الإنسان في صين "ماو"، هي في الحقيقة نسخ صينية لمآسي الناس في ظل جميع الأنظمة الشمولية في هذا العالم.

"الأزاليا الحمراء" كتاب سيرة شخصية يتوخى الدقة في ذكر حقائق حية عاشتها الكاتبة، لكنه لغرابة وقائع تلك الحياة، ولكثافة الشاعرية والصدق في السرد، يكاد ينافس أفضل الروايات المتخيلة حبكة وتشويقا.

عنوان الكتاب مستمد من عنوان الأوبرا التي ألفتها مغنية الأوبرا سابقا وزوجة "ماو" لاحقا "زيانغ تشنغ" التي كان لها موقع مؤثر في حياة الكاتبة، وهي في اختيارها لهذا العنوان أرادت القول بأن كل إنسان في ظل النظام الشمولي، يظل وحيدا منفردا مستوحشا مثل نبتة "الأزاليا" الصحراوية، برغم امتزاجه بمئات الملايين من الناس، وهي لم تعد من المحظورات، ومن التهم التي قد تلقي بصاحبها إلى التهلكة... ولهذا فإن مقدمتها التي لم تستغرق سوى سبعة أسطر، قد ركزت على هذه النقطة بالذات، باعتبارها السلك الذي ينتظم عقد مئات من الصفحات الحافلة بمختلف الأحداث المؤلمة.

تقول "آنتشي مين": الحب قوة جبارة تجعلك تنسى كل شيء آخر تقريبا، حتى التفكير بإعلان الثورة، فبدلا من أن تفكر في الصراع وتدمير الأشياء، تجد نفسك، حين تحب، راغبا في البحث عن السلام والاحتفال بالحياة.

ولأن الحزب يعلم أن الناس سيخرجون عن سيطرته الكاملة، إذا أحبوا، فقد كان قادته على الدوام يخافون من الحب!

ولدت "آنتشي مين" في شنغهاي عام 1957 وفي طفولتها أصبحت عضوا مثاليا في "طلائع الحرس الأحمر" وعندما بلغت السابعة عشرة التحقت بالعمل الشاق في المزارع الجماعية، ومن هناك التقطها مرافقو زوجة "ماو" لتكون نجمة في أفلام الدعاية الشيوعية.

لكن بعد وفاة "ماو" عام 1976 شعرت آنتشي بالخزي والمرارة، فقررت أن تغادر الصين إلى الولايات المتحدة، وقد أمكنها في عام 1984 أن تنفذ قرارها بمساعدة بعض الأصدقاء.

عندما غادرت "آنتشي" الصين، كانت معرفتها باللغة الإنكليزية محدودة، ولذلك فقد حاولت أن تكتب سيرتها هذه بلغتها الأصلية، لكنها وجدت الأمر صعبا، ورأت أنها لن تجد الطريقة المناسبة للتعبير عن معنى الحرية إلا بعاطفة حرة مستمدة من لغة جديدة!

ولهذا فقد صبرت حتى تمكنت من الكتابة باللغة الإنكليزية، لتنشر سيرتها في عام 1993 كشهادة مهمة على عهد جائر، تضاف إلى الشهادات القليلة التي كتبها صينيون من واقع تجربتهم الحية التي بدت أبعد وأقوى تأثيرا من أجمل الروايات المتخيلة، لأنها شهادات كتبت بدم أصحابها، وإذا لم يكن للاستبداد من سيئة أكثر من جعله المرء يشعر بالنفور من لغته الأم، لأنها عاشت على لسانه وهو عبد، فإن ذلك وحده يكفي لصبغ الاستبداد بالسوء الذي لا تغسله كل بحار الدنيا.

* شاعر عراقي