مذكرات فؤاد بطرس الشيعة يهددون باغتيال القذافي وتفجير الموقف إذا زار لبنان بابا الفاتيكان كان قاسياً على مسيحيي لبنان ووصفهم بأنهم يمارسون تدميراً ذاتياً خدام عاتبني على مصافحة بطرس غالي في كوبا وطلب مني شن هجوم شرس على مصر الحلقة العاشرة

نشر في 25-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 25-08-2008 | 00:00
منذ عودتي من مؤتمر بغداد في مطلع نيسان (أبريل) 1979 وأنا أفكر في المدخل المناسب لعقد قمة لبنانية - سورية تعمل على تطبيع العلاقات بين قيادتي البلدين بعد الاهتزاز الكبير الذي أصابها خلال حرب المئة يوم على الأشرفية، ورأيت أن الفرصة سنحت أخيرا عندما زار رئيس الحكومة سليم الحص العاصمة السورية، في 18 نيسان (أبريل) واجتمع مع كبار المسؤولين فيها، وعاد بفكرة انعقاد قمة لبنانية - سورية على أن يسبقها تحضير ورقة عمل لبنانية تبين التطلعات المستقبلية للحكم اللبناني. ومرت الأحداث بين شد وجذب في العلاقة السورية - اللبنانية وتفاعلات داخلية أدت إلى استقالة حكومة الحص في 16 آيار (مايو)، وكانت القيادة السورية راغبة في إعادة تكليفه مرة أخرى. واستمرت الأزمة الوزارية شهرين، بعدها ألف الرئيس سليم الحص حكومته الثانية في عهد سركيس، وضمت شارل حلو الذي فاجأ الجميع بتقديم استقالته عشية انعقاد مجلس النواب لمناقشة الحكومة بيانها الوزاري والتصويت على الثقة في الثامن من آب (أغسطس).

اختفاء الصدر

خلال الأزمة الوزارية وانتظار تشكيل الحكومة الثانية في عهد الرئيس إلياس سركيس، كانت الأوضاع في لبنان وجنوبه في حال جمود تخللتها الاعمال الحربية والاشتباكات الخفيفة على محاور التماس في بيروت والخط الفاصل بين ميليشيا جيش لبنان الجنوبي والتنظيمات الفلسطينية في جنوب لبنان. وكنت تابعت أيضا في تلك الفترة قضية اختفاء موسى الصدر من خلال مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية الذي انعقد في الرباط بين العاشر والثالث عشر من أيار (مايو) 1979، وبعدما ارتأيت الذهاب شخصيا لحضور المؤتمر، كلفت سفيرنا في الرباط عادل إسماعيل إثارة قضية الصدر في جلسات العمل. وقد أظهرت الوفود العربية «لا مبالاة تامة تجاه القضية وبعضها استغرب إثارتها في المؤتمر» على حسب قول السفير إسماعيل.

ما أثار استغرابي أكثر، المعلومات الأخرى الواردة في برقية السفير إسماعيل. فقد ذكر أن وزير الخارجية الليبية التريكي سأله عندما علم أن الوفد اللبناني سيثير موضوع اختفاء الصدر «إذا كان من الممكن عدم إثارته بحجة أن ذلك سيفتح مجالاً لبعض الوفود للتعريض بليبيا لأسباب سياسية أخرى». وبعدما أجابه السفير اللبناني بأن عليه إثارة المسألة بناء على طلب الحكومة اللبنانية، قال التريكي: «إن الرئيس (عبدالسلام) جلود بقي في إيران نحو الأسبوعين وإنه خلافاً لتوقعاته لمس لدى الخميني عدم اهتمام بهذه القضية ولم يحدثه عنها إلا بصورة عابرة». كما نقل سفير لبنان لدى المغرب رد الفعل الساخر لوزير الخارجية السورية عبدالحليم خدام بعدما أتى الأول في خطابه على ذكر قضية الصدر: «ماذا، هل وجدت الإمام الصدر؟»، فأجابه إسماعيل: «ننتظر مساعدتكم للعثور عليه». عندها قال له خدام: «أنتم اللبنانيين لا تريدون أن تروا الحقيقة وجهاً لوجه، مسألة الصدر واضحة».

وفي البرقية نفسها، نقل السفير عادل إسماعيل فحوى مكالمة هاتفية مع رئيس الوفد الإيراني على الشكل التالي: اتصل بي رئيس الوفد الإيراني وسألني ما التدابير التي يمكن أن نطلب من المؤتمر اتخاذها. أجبته بأنني مستعد لطلب كل ما من شأنه توضيح قضية الإمام، لكنه يُخشى قيام ليبيا ومن معها بالاعتراض على أي تدبير نطلبه لعدم صلاحية المؤتمر، لأن قضية الإمام خاصة ولا علاقة لمؤتمر وزراء الخارجية بها، فأجابني: «إذن لا لزوم لتقديم أي طلب، وشعرت أن سؤاله لي كان رفعاً للعتب».

معركة جوية

اجتمعت في الحادي عشر من حزيران (يونيو) في الكي دورسيه بنظيري الفرنسي جان فرنسوا بونسيه الذي بدا لي شديد الاهتمام بتتبع التفاصيل المتعلقة بالدور السوري في لبنان، فأخبرته بأن الحكومة السورية قد اقتنعت أخيراً بأنه لا يمكن حل القضية اللبنانية بقوة السلاح. وبعدما ذكّرت بأن القوات السورية دخلت إلى لبنان بمباركة الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل احتواء المقاومة الفلسطينية، لفت إلى التبدلات الجذرية التي شهدها الدور السوري خلال سنوات الأزمة اللبنانية، مشدداً على الطابع الخاص للعلاقات بين الشعبين اللبناني والسوري والحساسيات القائمة بينهما منذ ما قبل سنة 1920. وأشرت إلى أن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل قد جعلت سورية أكثر راديكالية على المستوى السياسي وأكثر حذراً على المستوى العسكري.

لم تكذّب الأيام مخاوف دمشق، فقد وقع في السابع والعشرين من حزيران (يونيو) 1979، الصدام العسكري المباشر الأول في لبنان بين سورية وإسرائيل، منذ التاسع والعشرين من آذار (مارس) 1974، أثناء حرب الاستنزاف. فقد جرت مواجهة بين سلاحي الجو السوري والإسرائيلي فوق الأراضي اللبنانية عندما حاولت مقاتلات سورية التصدي لطائرات إسرائيلية كانت تقصف أهدافاً فلسطينية في لبنان. وأسفرت المواجهة عن سقوط أربع طائرات سورية وإصابة خامسة تمكنت من الهبوط في مطار رياق.

خضّت هذه المعركة الشعب اللبناني، وأثارت الكثير من التعليقات، وبشكل خاص هاجمني اليسار عموماً لأني تصرفت، على حد قولهم، كوزير لخارجية إسرائيل أو الولايات المتحدة. وما جعلني أستحق هذا الاتهام في نظرهم، هو إعرابي عن اعتقادي، تعليقاً على المعركة الجوية، بأنها لن تكون الوحيدة، وقد تتبعها اعتداءات أخرى لأن رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي أكد عزم بلاده على ضرب المقاومة وقائياً في لبنان أينما وجدت، ولأن الأعمال العسكرية ضد إسرائيل من إطلاق صواريخ كاتيوشا، وقنابل، وقذائف مدفعية لم تتوقف.

«ورطة» القذافي

بعد نحو أسبوع، التقى الرئيس الليبي معمر القذافي خلال جولته العربية، سفيرنا في أبوظبي محمود حمود، وأبدى أمامه رغبته في أن يزور لبنان للاجتماع بالرئيس إلياس سركيس سواء على الحدود اللبنانية-السورية أو في مكان آخر. وأتى السفير حمود إلى لبنان، وقابل رئيس الجمهورية ثم قابلني، ورأينا أن نوافق على زيارة القذافي على أن يجتمع بالرئيس سركيس في قصر بعبدا. ومساء الحادي عشر من تموز (يوليو)، وردنا خبر مفاده أن الرئيس الليبي الذي أصبح في دمشق سيزور لبنان في اليوم التالي، وأن الاجتماع مع نظيره اللبناني سيعقد في شتورا، فأصر الرئيس سركيس بحسب نصيحتي على أن يكون الاجتماع في بعبدا، وبقيت الأمور تتأرجح بين «النعم» و«اللا» حتى منتصف الليل حين أبلغني قائد قوات الردع العربية بأنه تم الاتفاق على الترتيبات التالية: يترك القذافي دمشق في الساعة العاشرة، ويستقبله عند الحدود اللبنانية-السورية رئيس حكومة لبنان ووزير خارجيته، ويكون رئيس الجمهورية في استقباله في شتورا، حيث يستريح بعض الوقت قبل التوجه إلى القصر الجمهوري في بعبدا، إذ تُعقد المحادثات الرسمية. وأكد لي الخطيب أن تدابير أمنية مشددة قد اتخذت لتأمين سلامة الزيارة وتنقلات كبار المسؤولين اللبنانيين. ونمنا جميعنا تلك الليلة، من غير أن ننتبه إلى قضية اختفاء الإمام موسى الصدر وانعكاساتها على الشيعة وإمكان تصديهم للزيارة وللزائر الليبي الذي يحملونه مسؤولية الاختفاء.

في الثانية بعد منتصف الليل، أيقظتني زوجتي قائلة إن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى يطلب أن يكلمني بصورة مستعجلة جداً، فأدركت للتو أبعاد القضية. وكان على الخط، نائب رئيس المجلس الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي بدا صلباً للغاية حين هدّد، ولكن بأسلوب دبلوماسي، بأن «الزيارة إذا حصلت، فسوف تؤدي إلى انفجار، وحياة الزائر في خطر»، وعبثاً حاولت تهدئة روعه لكن الظرف حرج وأيقنت أن عليّ محاولة الخروج من هذه الورطة بأقل أضرار ممكنة على لبنان. اتصلت على الفور بسامي الخطيب وأيقظته وأخبرته ما جرى فبدا مقدراً خطورة الموقف، أما جوني عبدو فقد استخف بالوضع وقال: «لا بد أن تحصل الزيارة، والتدابير المتخذة تحول دون أي انفجار». لم أقتنع بنظرية مدير المخابرات، وواكبت اتصالات الخطيب بدمشق بعدما تفاهمت مع رئيس الحكومة الذي تهيّب بدوره الموقف على ضرورة إلغاء زيارة القذافي إلى لبنان، على أن يأتي الإخراج لائقاً كي لا نتسبب في مشكلة مع ليبيا.

بدايات نفوذ الشيعة

استمرت الحال بين أخذ ورد طوال الساعات المتبقية من الليل بين بيروت ودمشق، إلى أن أدرك القذافي أن القضية خطيرة ومن الأفضل الإقلاع عن زيارة لبنان، وقد لعبت سورية دوراً في إقناع الرئيس الليبي بصرف النظر عنها من دون إثارة مشكلة مع لبنان الرسمي. ومع ساعات الصباح الأولى، بدأت تظاهرات الاستنكار في الساحل الجنوبي لمدينة بيروت، والبقاع، والأوزاعي حيث قطعت الطرق، وحرقت الدواليب، وأطلقت العيارات النارية. كما أُطلق صاروخ على السفارة الليبية تسبب في أضرار مادية بسيطة. في الواقع، لا بد من الاعتراف بأننا لم ندرك كفاية، ولم نتوقع ردود الفعل والنتائج على زيارة القذافي إلى لبنان، وبأننا أخطأنا كمسؤولين رسميين في الدولة اللبنانية. وفي نقاش مع سكرتيري في الخارجية، في اليوم نفسه، قلت: «سيكون للشيعة في المستقبل دور متنام في لبنان، ولن يتقرر شيء بعد اليوم بمعزل عنهم».

عكفت الحكومة الجديدة على مسألتين: كيفية إحراز تقدم ما على صعيد الوضع الأمني في الجنوب للحيلولة دون انسحاب قوات الأمن الدولية، وكيفية إقناع قوات الردع العربية بأن تتخلى عن مهامها تدريجياً إلى الجيش اللبناني.

تولى رئيس الحكومة إجراء محادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن الوضع جنوباً بقي على تأزمه المطّرد، فجماعة المقاومة كانوا لا يحسبون حساباً لأحد. في المقابل، كانت المشكلة أن الكتائب والقوات اللبنانية لا تحسبان حساباً للجيش، وعلى خلاف دائم معه. ففي كل مرة يوقف فيها الجيش بعض عناصرهما، كانت الميليشيات الكتائبية والقواتية تبادر إلى خطف ضباطه وأفراده القاطنين في مناطق نفوذها.

كنا في ذلك الوقت نعلّق أهمية على مسألة توسيع مهمات الجيش على حساب قوات الردع العربية بصورة تدريجية، ونعتبرها من المسائل المهمة جداً لأنها، إلى حد ما، تضع النيات السورية على المحك من حيث أهدافها في لبنان. وقد أثار قلقي، في تلك الفترة، ورود برقية إليّ من واشنطن فحواها أن الخبراء في وزارة الخارجية الأميركية يبحثون في موضوع بقاء القوات السورية في لبنان، رغم أن إسرائيل ومصر لا تحبذان هذا البقاء.

فرنجية بين الكراهية والحقد

وفي هذا الإطار، قال وزير الخارجية الفرنسية جان فرنسوا بونسيه للسفير نجيب صدقة على هامش الحفلة الوداعية التي أقامها له: «عندما تستطيعون أن تؤلفوا حكومة يكون لها صفة تمثيلية فنحن على استعداد للتجاوب مع مطالبكم وتجنيد دول العالم بأسره لهذه الغاية، بما فيها انسحاب السوريين، إن الأميركيين يربطون هذا الأمر ببناء الجيش اللبناني».

وقد كتبت في مفكرتي في تلك الفترة:

«كلا الأمرين، أي تشكيل حكومة تمثيلية وإعادة بناء الجيش، مرهونان بحسن النيات السورية، وإني أخشى أن يكون مخطط السوريين عرقلة الوفاق وبالتالي قيام حكومة اتحاد وطني، وعرقلة بناء الجيش كي يستفيدوا من المعطيات التي تبرر بقاءهم. ولكن المؤسف في هذا الصدد أن الكتائب، وبصورة خاصة بشير الجميل يتصرف بشكل يعطي حججاً للسوريين للتمادي في مخططهم، ناهيك عن أن سليمان فرنجية حسب رأيي يحول دون الوفاق بموقفه من فريق «الجبهة اللبنانية». فهل يفعل ذلك تحت تأثير الكره والحقد أم أن السوريين يشجعونه؟ هذا السؤال ليس لدي جواب عليه الآن.

يوم الأحد في الثاني والعشرين من تموز (يوليو) أغارت الطائرات الإسرائيلية على الدامور وبعض المواقع الفلسطينية في الجنوب. فقمت بتحرك دبلوماسي سريع: استدعيت سفراء الدول الخمس الكبرى والدول المشاركة في القوات الدولية، ووجهت رسالة رسمية باسم الرئيس سركيس إلى الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وأجريت اتصالات سريعة مع المقاومة والولايات المتحدة.

كانت حجتنا قوية هذه المرة لأنه لم تكن للاعتداء الإسرائيلي ذريعة أو مبرر، وقد أدرجته تل أبيب في خانة الهجوم الوقائي، حتى إن الولايات المتحدة اضطرت إلى أن تدينه صراحة. وقد سألت سفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: «هل توافقون على السياسة الإسرائيلية بالضرب الوقائي؟ ماذا ستفعلون لضبطها؟ وكيف يمكن أن تبقى هيبة أو فاعلية لمجلس الأمن بعد أن أذلته إسرائيل بهذا الشكل؟» وكان الانزعاج الأميركي من الاعتداء الإسرائيلي هو الأبرز باعتبار أن الدولة العبرية استعملت سلاح الجو الذي اشترت قطعه من الولايات المتحدة لغايات تناقض الشروط التي حددتها لاستعماله، أما الكتاب إلى الرئيس كارتر فقد حررته باللغة الفرنسية باسم رئيس الجمهورية، وهو، في الواقع، الكتاب الثاني الموجه إلى الرئاسة الأميركية بعد كتاب أرسله الرئيس سركيس بصورة شخصية وسرية قبل أسبوعين أو ثلاثة. في المقابل، استمرت المقاومة في المناورة والمراوغة وكنت متأكداً أن مساعي الرئيس الحص تجاهها لن تفضي إلى نتيجة.

مهمة القليبي

غداة الغارات الإسرائيلية، وصل إلى بيروت الأمين العام الجديد لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي الذي بدا لي بعد اجتماعي معه أنه في بداية مهمته غريب بعض الشيء عن السياسة لكنه يضمر نيات حسنة، ومتحمس جداً للنجاح في مهمته، وكنت متأكداً من أن التجارب الميدانية وصعوبات الواقع ستخفف مع الوقت من غلوائه وتفاؤله. أفهمته بكل صراحة أن لبنان لا يستطيع أن يتحمل منفرداً عبء المقاومة والحرب ووزرهما، وأن المقاومة بتدخلها في الشؤون الداخلية اللبنانية قلبت الموازين والمعادلات، واستعدت قسماً كبيراً من اللبنانيين، وخرجت بالتالي عن أهدافها ومبررات عملها. وطلبت إليه أن يدرس إمكان عقد اجتماع على مستوى القمة أو أدنى للنظر في مسألة الجنوب لأننا لم نعد قادرين على التحمل.

ردّ القليبي على مواقفنا بكلام متزن ومعتدل يندرج في إطار أدبيات جامعة الدول العربية المعتادة، لكنه قال لي أثناء وداعي له في المطار كلاماً ذا مدلول كبير: «الجماعة لا يستطيعون أن يكفوا عن النشاط الفدائي في لبنان لأنه ورقتهم الوحيدة»!

في الخامسة بعد ظهر الواحد والثلاثين من تموز (يوليو) زارني الأمين العام المساعد للأمم المتحدة للشؤون السياسية بريان أوركهارت في منزلي آتياً مباشرة من المطار واجتمعنا مدة ساعة. ثم التقى رئيس الحكومة سليم الحص، وعند منتصف الليل، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. وفي اليوم التالي تناولنا طعام الغداء في منزلي. وبنتيجة مداولاتنا، تبين لي أن الأمم المتحدة عاجزة عن تخطي الحائط المسدود، في وقت تتشبث فيه إسرائيل بسياستها المعادية للمقاومة بقدر ما يبدو لها أن هذه الأخيرة تحرز تقدماً دبلوماسياً خصوصاً مع الولايات المتحدة التي تبذل جهدها لإبقاء التدهور في لبنان في حدود معقولة. أما المقاومة والحركة الوطنية، فهمهما الوحيد أن تبقى لهما حرية التحرك، وأن يحولا ضد استعمال الجيش في الداخل وفي الجنوب.

جو من الوقار

في تلك الأثناء، أبلغتني أجهزة المخابرات معلومات أزعجتني للغاية، ومفادها أن الرئيس سليم الحص أصبح أسيراً لليسار والحركة الوطنية، وأنه يصعب عليه حتى البحث في أي أمر يعرف مسبقاً أنه لا يحظى برضا سورية. وكنا في هذا الوقت في صدد البحث في مواضيع شائكة وفي مقدمها المراسيم التنظيمية لقانون الدفاع الجديد وقضية حلول الجيش اللبناني مكان قوات الردع العربية.

في آب (أغسطس) اجتمعت مع الرئيسين سركيس والحص وتفاهمنا على جملة أمور منها أن أشارك مع رئيس الحكومة الذي سيمثل رئيس الجمهورية في مؤتمر القمة لدول عدم الانحياز في كوبا، وأن أشارك وحدي في اجتماعات الجامعة العربية، وأن أقوم بزيارة إلى الفاتيكان عشية سفر البابا يوحنا بولس الثاني إلى الولايات المتحدة، ومن ثم أسافر إلى نيويورك لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. واستقر الرأي على توجيه رسالة من رئيس الجمهورية إلى نظرائه العرب، تتضمن دعوة إلى عقد مؤتمر قمة للنظر بأمر الجنوب.

غادرت برفقة زوجتي تانيا وابنتي ريما، والسكرتير في الخارجية سمير مبارك إلى هافانا في الثلاثين من آب (أغسطس) ووصلنا إليها صباح اليوم التالي لأن إعصاراً فرض علينا أن نمر بمطار مونتريال قبل الوصول إلى كوبا، ساد مؤتمر دول عدم الانحياز جو من الوقار رغم أن خطابات الرئيس الكوبي فيدل كاسترو ومواقف الدول الاشتراكية طغت على المواقف المعتدلة.

شكوى الأسد

ركّز العرب خلال قمة عدم الانحياز على إحراج مصر ومحاولة إخراجها من المنظمة. وعندما احتدم النقاش جاءني خدام وطلب إليّ أن أتكلم في الجلسة العلنية وأهاجم مصر بقسوة، فرفضت رفضاً باتاً، وقلت له: «إنني أوافق على التصويت ضدها لالتزامي بالإجماع العربي، لكنني لن أصل أبداً إلى حد كيل الشتائم لها، والموقف الذي تضمنه خطاب رئيس الحكومة من كامب ديفيد كاف تماماً». وكان وزير الخارجية المصرية بطرس غالي صافحني عند مدخل المؤتمر، فلم يرق الأمر وزير الخارجية السورية الذي حاول أن يعاتبني فأجبته أن المواقف السياسية شيء والعلاقات الشخصية شيء آخر، وبدا لي أن كلامي أيضاً لم يرقه.

غادر الرئيس سليم الحص قبل انتهاء المؤتمر فحللت مكانه في رئاسة الوفد اللبناني، واستجبت مع زوجتي تانيا لدعوة الرئيس الكوبي فيديل كاسترو إلى حفل العشاء الذي أقامه على شرف رؤساء الوفود المشاركة في قمة عدم الانحياز. وصادف وصولنا إلى مكان العشاء وصول الرئيس السوري حافظ الأسد وبرفقته وزير خارجيته عبدالحليم خدام. فبادرت إلى تقديم زوجتي إلى الرئيس الأسد الذي بادرها بالقول: «إن الأخ فؤاد لا يتعاون معنا، عبثاً طلبنا إليه أن يأخذ موقفاً من مصر فلم يتجاوب»، فأجبته: «يا سيادة الرئيس، إن لبنان انتقد مصر وأخذ موقفاً صريحاً ضد اتفاق كامب ديفيد في خطاب رئيس الحكومة إلى المؤتمر، ولم أر مبرراً لأطلب الكلام بعد ذلك لأهاجم مصر مجدداً بشكل لا يتلاءم مع العرف الدبلوماسي».

قسوة البابا

بعد تأخير دام أكثر من ثلاثة أيام بسبب الإعصار دافيد الذي ضرب كوبا ومحيطها، وصلت صباح الأربعاء في الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) إلى نيويورك ومنها اتصلت بالسفير أنطوان فتال في روما وتبلغت منه أن موعدي مع البابا يوحنا بولس الثاني ظهر اليوم التالي في مقر البابا الصيفي الكاستل غوندولفو. فحجزت على أول طائرة مغادرة إلى روما التي وصلت اليها في الساعة السابعة والدقيقة الخمسين من صباح الثالث عشر من أيلول (سبتمبر). ومن المطار توجهت إلى الفندق حيث بالكاد تمكنت من تبديل ملابسي وحلق ذقني ثم توجهت إلى «الكاستل غوندولفو» الذي وصلت اليه مع السفير فتال وزوجتي وابنتي قبل ربع ساعة من الموعد المحدد من غير أن أحظى بدقيقة نوم.

استقبلني الحبر الأعظم مع السفير فتال ببشاشة مدة أربعين دقيقة تكلمت خلالها عن لبنان ومصائبه وشروط استمراره وبقائه موحداً لا مسلماً ولا مسيحياً. ووجدت صدى إيجابياً لديه لكنه كان قاسياً في حديثه عن الفريق المسيحي، معتبراً أنه «يمارس تدميراً ذاتياً autodestruction، وهذا أخطر ما يتعرض له لبنان في الظروف الحاضرة»، وشكا من أن القوات اللبنانية تمارس أحياناً المزايدة في مواقفها حتى بالنسبة إلى الفاتيكان. وبعد أن استفاض في الحديث قال لي: «voulez-vous dire aux Forces Libanaises que le Vatican, lui aussi, est catholique!» «هلا قلت للقوات اللبنانية إن الفاتيكان هو أيضاً كاثوليكي!».

يتبع

back to top