-1-

Ad

اتفق معظم المحللين السياسيين لظاهرة الإرهاب، التي انتشرت بشكل واضح بعد كارثة 11 سبتمبر 2001، على أن التعليم الديني الأصولي ساهم مساهمة كبيرة في نشوء ظاهرة الإرهاب، على النحو الذي نراه الآن، إضافة إلى عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية عدة.

ولذا، يرى هؤلاء، ومعهم آخرون، أن علاج الإرهاب يكون أيضاً بالتعليم، تمثلاً للحكمة القائلة: «وداوها بالتي كانت هي الداء». فمادام هؤلاء المنتحرون، ومعظمهم من الشباب، قد اندفعوا إلى النحر والانتحار، بفضل تعاليم دينية درسوها في مدارسهم، وقرأوها في كتبهم، فمن الأصوب أن نقوم بإنشاء مدارس ومناهج مضادة، تقوم على المناهج العقلانية الحديثة والتعليم الحديث، لكي ينقطع جيل هؤلاء عند الحد الذي هو عليه الآن، ولا ينشأ بعد عقدين من الزمن، أو أقل قليلاً أو أكثر، جيل انتحاري وإرهابي جديد، وتقع الواقعة مرة أخرى، كما جرى في عام 2001 وما بعدها.

-2-

لقد فطن، وأدرك كل هذا، وعمل به، وطبّقه تطبيقاً سليماً ليس العرب، الذين تأذّوا من الإرهاب أذى كبيراً، ولكنه كان موضوع كتاب «ثلاثة فناجين من الشاي» عن تجربة جريج مورتنسون Greg Mortenson التي كتبها الصحافي ديفيد ريلين. وفكرة هذا الكتاب مستوحاة من مقولة شهيرة لسكان منطقة «بلتستان» شمال كشمير على الحدود الصينية. ويعتنق معظم سكان هذه المنطقة الإسلام. ولدى هؤلاء السكان حكمة شعبية تقول: «أنت غريب، ولكنك في المرة الأولى، تتناول الشاي مع مضيف بلتستاني، وفي المرة الثانيـة أنت ضيف عزيز عليه، وفي المرة الثالثـة ستكون فرداً من العائلـة البلتستانية». أما أحداث هذا الكتاب، فتدور حول قصة رجل واحد، واجـه الفقـر والجهـل في محاولته لتعليم الفتيـات هنـاك، والمصاعب التي واجهتـه، وكيف تغلـّب عليهـا، ليصل إلى مرحلة فنجان الشاي الثالث مع أهالي بلتستان.

ومورتنسون موضوع هذا الكتاب، ليس فيلسوفاً، ولا مصلحاً دينياً، ولا ناشطاً سياسياً، ولا صاحب رسالة إنسانية، ولم يسبق له أن كتب كتباً أو أبحاثاً في التعليم الديني، وفي عناصر الإرهاب والجماعات السلفية الإسلامية.

-3-

جريج مورتنسون هذا، مواطن أميركي من ولاية مونتانا، يهوى الطبيعة وتسلّق الجبال. وهو شهير في هذه الرياضة، وكان يمكنه جمع الملايين من هذه الشهرة لو أراد. لكنه ترك هذا كله، والتفت إلى بناء مدرسة، في أقصي شمال باكستان. وسرُّ معرفته بباكستان، أنه تخلّف عام 1993 عن مجموعة رياضية، كانت تحاول تسلق جبل «K2»، ثاني أعلى قمة في العالم، وكاد يموت ضياعاً، ولكن أنقذه سكان معدمون، يسكنون قرية اسمها «كورف»، كائنة على جرف منحدر جليدي ضخم، بمنطقة بالتيستان.

وبعد أن تعافي مورتنسون، قطع وعداً للقرويين بتشييد مدرسة بقريتهم. وقامت أمه بجمع التبرعات من المدرسة التي تعمل بها في ولاية ويسكانسين. وباع مورتنسون ما يملكه كله، وعاش في سيارته، حتى يوفّر الأموال لتنفيذ المشروع. وفي النهاية جاءته عشرة آلاف دولار، من محسن ثري، لكي يؤسس «معهد آسيا الوسطى»، وهو منظمة غير حكومية، مكرَّسة لتشييد المدارس. ولم يسلم مورتنسون في البداية من هجوم رجال الدين الأصوليين عليه، الذين أطلقوا الفتاوى ضده. وبعد ثلاث سنوات من الجد والعمل المتواصل، أنشأ مورتنسون مدرسته الابتدائية الأولى. وبعدها بثلاثة أشهر شيّد ثلاث مدارس أخرى بمساعدة الأهالي في القرية. فقد أدرك مورتنسون أن تنمية حياة الناس، في مثل تلك المناطق البعيدة، تعتمد على تعليم الفتيات. وأن الوسيلة المثلى لمواجهة التعليم الديني المتطرف هي إنشاء مدارس حديثة، أي اتباع حكمة: «وداوها بالتي كانت هي الداء». وكانت المعجزة أن يقوم مورتنسون ببناء 55 مدرسة في شمال باكستان وأفغانستان، يتعلم فيها 24 ألف طالب وطالبة تعليماً حديثاً، بعيداً عن المناهج المدرسية الدينية المتطرفة التي تدعو إلى عداوة الآخر وتكفيره ومحاربته.

وكانت المفاجأة لكل من قرأ كتاب «ثلاثة فناجين من الشاي»، أن يساند بعد ذلك، سكان المناطق وشيوخ القبائل التي أقام فيها مورتنسون مدارسه، هذه المشاريع التعليمية، ويحموا مورتنسون من أي اعتداء محتمل، بعد أن تعرّض لاعتداء من قبل الحشاشين في وزيرستان. ولكن مجلس الملالي (ومعظمهم من الشيعة) في هذه المنطقة عقدوا اجتماعاً، وأصدروا فتوى تقول إنه «لا وجود لقاعدة بالقرآن الكريم، تحرِّم أن يبدي الكافر المعاونة للمسلمين من الاخوة والأخوات. وعليه، نحن نأمر رجال الدين كلهم في باكستان، ألا يعوقوا نواياك النبيلة. فقد سمحنا لك بالعمل، وأسبغنا عليك بركاتنا، ودعواتنا».

-4-

ويروي ديفيد ريلين على لسان مورتنسون، فشل الحل العسكري الأميركي في أفغانستان، والضحايا من الجيش الأميركي، والإنفاق المالي الهائل من دون جدوى ملموسة في محاربة الإرهاب في أفغانستان. فكل إرهابي يُقتل، يظهر بدلاً منه عشرة إرهابيين كل يوم، نتيجة للجهل والفقر وسيطرة التعليم الديني المتشدد.

وقد عبَّر الكاتب الصحافي في جريدة نيويورك تايمز نيكولاس كريستوف في مقال له، عن هذا بقوله: «منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، جرّب الغربيون مقاربتين لمحاربة الإرهاب في باكستان: مقاربة الرئيس بوش، ومقاربة جريج مورتنسون.

فبوش ركَّز على القوة العسكرية، ووفر أكثر من 10 مليارات دولار لحكومة برويز مشرف، غير أن هذه المقاربة فشلت، إذ جعلت المناطق القبلية في باكستان أكثر تشدداً، وباتت مأوى وسنداً للإرهابيين أكثر من أي وقت مضى. أما مورتنسون، فيتبنى مقاربة مناقضة تماماً، حيث أنفق فيها أقل بكثير من المبلغ الذي أنفقته إدارة بوش. ويقوم مورتنسون ببناء المدارس في مناطق باكستانية وأفغانية معزولة، ويعمل عن كثب مع رجال الدين المسلمين، بل ويصلي معهم أحياناً. أما الشيء الوحيد الذي ينسفه مورتنسون فهو جلاميد الصخر التي تسد الطرق المؤدية إلى المدارس.

وبفضل هذه الأعمال، أصبح مورتنسون أسطورة في المنطقة، حيث تجد صورته معلقة في المرايا الداخلية للسيارات.

إن أفضل علاج ضد التطرف في باكستان وأفغانستان هو التعليم والفرص الاقتصادية. لذلك نجح مورتنسون بمفرده في ما فشل فيه بوش وإدارته.

فهل يقرأ المسؤولون العرب كتاب «ثلاثة فناجين من الشاي» جيداً، ويحاولون تطبيق تجربة جريج مورتنسون، بأقل القليل من المال والجهد، للتخفيف من الإرهاب، ثم للقضاء عليه مستقبلاً؟

* كاتب أردني