لا تمر دقيقة واحدة على أي من وسائل الإعلام العربية، مقروءة ومسموعة ومرئية، إلا ونجد من يطالب الناس بأن يخلعوا رداء السلبية وينخرطوا في مشاركة سياسية إيجابية، حتى يصبحوا مواطنين «صالحين»، لكن أحداً من هؤلاء لم يعن كثيرا بأن يبين لنا ما معنى المشاركة السياسية تلك التي يطالبنا بأن نضعها نصب أعيننا ليل نهار.

Ad

إن المشاركة تعني، بصفة عامة، الجهود المشتركة، حكومية وأهلية، في مختلف المستويات والتي ترمي إلى تعبئة الموارد الموجودة أو التي يمكن إيجادها لمواجهة الحاجات الضرورية وفقا لخطط مرسومة في حدود السياسة الاجتماعية للمجتمع. وتعني أيضا التعاون القائم على الشعور بالمسؤولية الاجتماعية من أفراد المجتمع ومنظماته وقياداته، والتي تنبع من اتجاه اجتماعي ومبادئ ثقافية وأخلاقية. أما المشاركة السياسية فتكمن في الأنشطة التطوعية التي يشارك بها الفرد بقية الجماعة الوطنية في اختيار الحكام وصناعة القرار، وصياغة السياسات العامة، سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة. وتتدرج هذه الأنشطة من الانتماء إلى الأحزاب السياسية والترشح في الانتخابات والتصويت والمساهمة في الحملات الانتخابية، والتبرع بالمال لتعزيز خيار سياسي معين، وحضور الاجتماعات السياسية، وإجراء اتصالات بشخصيات سياسية رسمية، وكتابة الخطب وإلقائها، والقيام بالدعاية لمصلحة حزب سياسي أو حركة اجتماعية، والمشاركة في النقاش والجدل العام، وجمع المعلومات حول السياسات المحلية والدولية.

وما سبق يشمل الأنشطة التي توافق القواعد الشرعية المقررة والسلمية المتعارف عليها، لكن المشاركة قد تجنح إلى أفعال تخالف تلك القواعد من قبيل السلوك العنيف والمتطرف، والثورات، ومختلف أشكال المقاومة المدنية من التظاهر والاعتصام والعصيان المدني والإضراب، وتكمن عدة دوافع وراء كل هذا، مثل باعث الانتماء، وباعث الإنجاز، وباعث البحث عن مزيد من قوة.

والمشاركة السياسية هي نشاط اختياري، ومزاولة إرادية، ترمي إلى التأثير في تحديد السياسات العامة، واختيار القادة على المستوى المحلي والوطني، سواء كان هذا النشاط موفقا أو غير موفق، منظما أو عشوائيا، مستمرا أو متقطعا، شرعيا أو غير شرعي. والمشاركة مؤشر تفاعلي لصحة العلاقة بين المجتمع والسلطة السياسية، فبقدر ما تعبر السلطة عن مجتمعها تعبيراً دقيقاً وأميناً، بقدر ما تتعزز المشاركة السياسية الإيجابية المنظمة لأفراد المجتمع في الشؤون العامة، سواء بصفتهم الفردية، أو عبر المؤسسات والوسائط السياسية.

وتتسم المشاركة السياسية بعدة خصائص، أولها الفعل، الذي ينطوي على تحرك الجماهير بنشاط صوب تحقيق الأهداف. وثانيها التطوع، حيث يقدم الناس على الانخراط في المجالات العامة بإرادة حرة، من دون أي إكراه مادي أو معنوي. أما ثالثها فهو الاختيار، الذي يعني أن يمتلك الأفراد تحديد توقيت وصيغة المشاركة، ويكون بوسعهم أن يمتنعوا عنها في الوقت الذي يحددونه، وحسب ما تقتضيه مصالحهم. ولا يقف المشاركون السياسيون على درجة واحدة من الانخراط، بل يتفاوتون تفاوتا ظاهرا، ولفت هذا التفاوت أو ذلك التنوع انتباه علماء كثر فحاولوا تصنيف هؤلاء المشاركين في فئات معينة، فقسمهم أحدهم إلى متفرجين ومشاركين ومجالدين، وذهب آخرون إلى تقسيمهم إلى ست شرائح تتدرج من الأدنى إلى الأعلى فتبدأ بغير المشاركين على الإطلاق، ثم المهتمين بالتصويت في الانتخابات، فالنشيطين الواضحين المعروفين، ثم المهتمين بالتفاعل مع الجماهير، فالمشاركين في الحملات الانتخابية، وأخيرا المنغمسين في مشاركة سياسية ظاهرة.

وهناك من قسم شرائح المشاركين إلى ستة أنواع: الأول يتمثل في القادة الذين يتولون المناصب الحكومية، وهؤلاء قد يخدمون كأعضاء في مجلس عام أو لجنة أو ما يشبه ذلك، ويمكن أن ينتخبوا لمناصب عامة. والثاني يشمل النشيطين الذين يشتركون في الأعمال السياسية المنظمة، وقد ينخرطون في أعمال تطوعية. والثالث يضم المتصلين بالحياة السياسية، والذين يسعون إلى ذلك بجمع المعلومات، وترسيخ القيم السياسية. والرابع يشمل المواطنين، الذين يجدّون في سبيل القيام بما عليهم من مسؤوليات، في المساهمة في صنع السياسات العامة واختيار الحكام، وما يتطلبه هذا من معرفة سياسية وانحيازات واتجاهات. أما الخامس فيضم المهمشين، الذين لا تربطهم بالنظام السياسي سوى خيوط واهية. وأخيرا يأتي المنعزلون، الذين لا يشاركون سياسيا إلا نادرا، بل قد لا يشاركون على الإطلاق، وهم لا ينتمون إلى أي من الفئات الخمس السابقة.

وهناك عدة عوامل تحدد الرغبة في المشاركة، ومستواها ودرجتها وشكلها، أولها أن هناك علاقة طردية بين حجم مشاركة الفرد ومستوى المثيرات السياسية التي يتعرض لها في حياته. وثانيها أن هناك علاقة طردية بين مستوى المثيرات السياسية التي يتلقاها الفرد والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، ففي المتوسط العام فإن أبناء الطبقة المتوسطة يتعرضون لشواغل سياسية أكبر من أبناء الطبقة العاملة.

ويختلف مستوى الاهتمام السياسي للفرد تبعا لاختلاف الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، التي تسهم في صياغة معرفة الأفراد بشؤون السلطة والحكم، وصناعة القيم التي تترسخ في نفوسهم، وتشكيل اتجاهاتهم السياسية. وفي الغالب الأعم، يميل الأفراد الأقل تعليما إلى تجنب المعلومات السياسية ورفضها، في إطار ما يدور في أذهانهم من أوهام عن التمسك بكل ما يحمي الذات ويصون الهوية، لاسيما إن كانت هذه المعلومات من النوع الذي يساءل بعض ما يعتقده الفرد حيال نفسه، والشخصية القومية لبلده، ومعتقداته الدينية.

ويرتبط الاهتمام السياسي بالنوع، لاسيما في الفئات الأقل تعليما، حيث ينشعل الذكور بالسياسة بدرجة أكبر من الإناث، ويقود ارتفاع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي للشخص إلى تعزز شعوره بالثقة بالنفس ومن ثمّ رسوخ الاقتدار السياسي لديه، وسعيه إلى تنمية معارفه بالمجال العام، وإحساسه بأن بوسعه أن يؤثر في مجريات الأمور ويقوم بما عليه من واجب حيال وطنه. ويؤدي شعور الإنسان بالاغتراب إلى تدني رغبته في المشاركة السياسية، لأنه لا يثق بالسياسة والسياسيين، ويحس باللاجدوي من الانخراط في أي عمل إيجابي. ويميل الأشخاص المقربون من التجمعات والتنظيمات السياسية، مثل العاملين في مختلف أجهزة الإعلام والمحامين، إلى المشاركة السياسية أكثر من هؤلاء الذين يعملون في مهن بعيدة نسبيا عن الساسة والسياسة.

وتتزايد المشاركة السياسية بتقدم العمر، لتصل إلى ذروتها في منتصفه، ثم تبدأ في التراجع مع زحف الإنسان نحو الشيخوخة الهادئة، حيث يتضاءل الوقت الذي يخصصه الإنسان لممارسة النشاط السياسي، وتضعف صحته فتخذله حين يحاول بذل أي مجهود تتطلبه الحياة السياسية بتعقيداتها وتشابكاتها.

وأخيرا، يقبل سكان المدن على المشاركة السياسية أكثر من قاطني الريف، لأن أهل المدن أكثر تعرضا للمعلومات السياسية، وترتبط طبيعة المهن التي يعملون بها بالمجال العام، أكثر من ارتباط أعمال الفلاحة.

* كاتب وباحث مصري