على نحو عجيب نسجت أحداث العقد الماضى وبالذات أحداث 11 سبتمبر «علاقة مصير» مثيرة بين أميركا والمنطقة العربية. وبالطبع كانت هناك جذور وبدايات وتطورات سابقة دفعت «الثور الأميركي» للاصطدام الأحمق مع المشاعر السائدة في العالم العربي على نحو متعاظم ولمصلحة إسرائيل وحدها. واشتد هذا الاندفاع مرات عديدة بعد أن قفز اليمين الأصولي والمحافظون الجدد للبيت الأبيض في ظل إدارة بوش وتطبيقهم لسياسات استعمارية.

Ad

غير أن الولايات المتحدة وجدت نفسها متورطة في سياسات وصراعات وأوضاع المنطقة بصورة ضارة للغاية برفاهيتها وببقائها على قمة النظام الدولي.

تكلفة الخصومة مع العرب

ويمكننا أن نتصور حجم التكلفة فيما لو اتسع الصدام بين العرب والأميركيين بأبعد من حالتي فلسطين والعراق. ويكفي أن نشير هنا إلى التقديرات التي قام بها الاقتصادي الأميركي الكبير كروجمان بأن احتلال العراق كلف الولايات المتحدة بصورة مباشرة وغير مباشرة ما يزيد على ثلاثة تريليونات دولار، وهو رقم مخيف بالفعل. فإن أضفنا عشرات الآلاف من الجرحى وأكثر من ثلاثة آلاف من القتلى في العراق لأمكن لنا تصور مدى النزيف الذي تعرضت له أميركا بشريا واقتصاديا في هذا الموقع وحده.

ولكن النزيف في المكانة السياسية العالمية كان ولايزال أشد. وقد استنتجت دراسة لريتشارد هاس الرئيس السابق لقسم التخطيط السياسي بوزارة الخارجية في مرحلة كولين باول إلى أن المستقبل يحمل بشرى سلبية للوضع الدولي للولايات المتحدة لأسباب كثيرة فجرتها جميعا عملية الاحتلال الأميركي للعراق. فالولايات المتحدة تخسر مكانتها الانفرادية على قمة النظام الدولي، وسوف تصبح واحدة من بين قوى متعددة وقد لا تكون أكثرها تأثيراً فيما لا يزيد على عقدين من الآن. وأثبتت «التجربة العراقية» أن أميركا بكل جبروتها لا تستطيع أن تخوض حربين في موقعين مختلفين ولو داخل نفس المنطقة. وعلى نفس القدر من الأهمية فالولايات المتحدة تخسر كل يوم مكانتها المعنوية والأخلاقية لأسباب متجذرة في سياساتها التمييزية وتحيزها المطلق لإسرائيل واحتقارها الملحوظ للقانون الدولي وتبنيها لسياسة إملاء الإرادة على «الأمم المتحدة». ولا أدل على ذلك من سلسلة الهزائم السياسية التي تلقتها أميركا في المنطقة خلال العامين وبالتحديد في الشهرين الماضيين. فهي لم تعد قادرة على إجبار إيران على التخلي عن عملية تخصيب اليورانيوم والسيطرة على كل دورة الوقود ولم تعد تهديداتها ولا عقوباتها تجدي فتيلا بل تحقق عكس المقصود. وخسرت أميركا رهانها على إسقاط النظام السوري بل خسرت الصراع في لبنان كما هو واضح في إبرام اتفاق الدوحة الذي مال بشدة لمصلحة «حزب الله» الخصم العنيد لإسرائيل والأميركان. بل خسرت أميركا ثقة حلفائها خصوصا مصر والسعودية.

والأمر الأكثر أهمية أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تنسحب من المنطقة ولا تستطيع أن تستمر لأجل غير محدد في تحمل تكلفة الخصومة معها.

وهذا هو ما يجعل مبدأ التفاوض مع «المنطقة» أمرا ضروريا وربما ملحا للمصالح الأميركية الجوهرية. فلا يوجد حل سهل للورطة التي وضع الأميركيون أنفسهم فيها. فإن حصرنا أنفسنا في حالة العراق وحده لحصلنا على نموذج فذ لما يسمى بـ«معضلة السجين» في نظرية اللعب حيث كل الاختيارات صعبة باستثناء واحد وهو أن يتم التواصل والحوار بين شريكين لهما مصالح مختلفة أو متناقضة بحيث يدرك الطرفان أن تنسيق الحركة هو أفضل اختيار لكليهما معا، وهذا هو ما نعنيه بالربط العجيب بين الأميركيين والعرب.

أما من وجهة النظر العربية فهناك الوضع الحالي للسياسات الأميركية التي تهدر حقوقا أساسية وتسبب معاناة هائلة خصوصا على المستوى النفسي والثقافي لكل العرب وعلى المستوى الحياتي والسياسي أيضا للشعبين الفلسطيني والعراقي. ولا شك أن الشعبين سوف ينتصران في النهاية، غير أن نيل الحقوق المهدرة بقدر أقل من المعاناة أمر تهفو إليه النفس ويؤيده العقل ويتعلق بالمصير. فكلما تزايدت المعاناة تضاعفت قوة الدفع للتطرف السياسي والديني في المنطقة وفي البلدين الأكثر تعرضا للعدوان الأميركي-الإسرائيلي.

«حوار من أجل صفقة تاريخية»

ولكن وضوح هذا الارتباط العجيب في المصير بين العرب والأميركيين يحتاج لتعرف واعتراف من جانب كل طرف. وفي الولايات المتحدة يطرح المرشح الجمهورى ماكين سياسات مستقبلية أسوأ مما يطرحه بوش سواء في ما يتعلق بالعراق أو فلسطين. وتكاد الانتخابات الأميركية تتحول إلى مزاد في تأييد إسرائيل شملت حتى مرشح قوى التغيير والسلام في أميركا وهو باراك أوباما.

ولكن أوباما يظل الرهان الأفضل بكثير على استراتيجية الحوار. فرغم تعهده بدعم إسرائيل و«حمايتها» ومحاولته أو اضطراره للظهور بمظهر «الصقر» في ما يتعلق بإيران وهو أمر نتوقع أن ينجر إليه أكثر في غياب أدوار عربية رسمية وشعبية فهو يفهم جيدا طبيعة الورطة ودور العرب في تحرير بلاده منها. ولذلك فإن عرض «صفقة تاريخية» على المرشح أوباما يقويه ويثبته أمام الضغوط الصهيونية العاصفة. هو يقويه لأن مؤسسة الحكم الخفية الأميركية تدرك طبيعة الورطة وتفهم الارتباط الاستثنائي العجيب في المصير بين العرب والأميركيين بعد 11 سبتمبر. فإن حصلت من العرب عن طريق أوباما على عرض جيد فقد تعمل على اختياره رئيسا للولايات المتحدة أو قد تتوقف عن إعاقته- أو ربما تصفيته بدنيا كما أشارت ضمنا السيدة هيلاري كلينتون غريمته في السباق الديمقراطي على الترشح للرئاسة- بعد أن فرض نفسه عليها بحكم الانتخابات.

ما طبيعة هذه الصفقة؟ ليس هناك قالب واحد أو معادلة سهلة أو نهائية. فالمفاوضات قبل أو بعد انتخاب أوباما تحتاج لحيز كبير من الاختيارات والتوافقات وربما المناورات. ولكن جوهر الصفقة التاريخية التي يمكن أو يجب على العرب عرضها على رجل مثل أوباما واضحة وهي التزام العرب باحترام المصالح الأساسية المشروعة للولايات المتحدة في المنطقة بما يمكنها من الانسحاب السياسي والاستراتيجي الآمن مقابل احترام المصالح الاستراتيجية والحقوق غير القابلة للتصرف للشعبين الفلسطيني والعراقي: الاستقلال وحق العودة وبناء دولة مستقلة كاملة السيادة.

يحتاج باراك أوباما ويفهم استحالة تطبيق برنامجه في النهوض الاقتصادي والاجتماعي وتجديد أميركا إن استمر الإهدار المخيف للموارد الاقتصادية والبشرية والسياسية لأميركا في صراعات المنطقة لمجرد خدمة المصالح الإسرائيلية في حالتي فلسطين والعراق بالذات. ولو أن أوباما وفر كل هذه الموارد لأمكنه تمويل برنامجه أو رؤيته في إعادة بناء أميركا اقتصاديا واجتماعيا ومن دون خسارة أي مصالح جوهرية أميركية في المنطقة. وفي المقابل فإن حصول العرب على حقوقهم المهدرة مبكرا تمكنهم من الانخراط في عملية إعادة بناء كبيرة تحررهم من التطرف والعنف وربما من التخلف وعدم المساواة والفساد وتستعيد احترامهم في المعترك الدولي.

من يتفاوض؟

السؤال الكبير الذي يمثل الفجوة الأساسية في هذه الأطروحة أو هذا الاقتراح هو من يفاوض أوباما أو طاقمه. الإجابة الأقرب للمنطق هي الجامعة العربية. ولكن هذه المؤسسة العريقة صارت مجردة من القوة والصلاحيات. ولذلك قد تكون الإجابة كما يلي: لتبدأ أي دولة أو قوة كبيرة أو حتى تيار سياسي الحوار مع طاقم أوباما حتى يقطع ولو نصف الطريق إلى صفقة وبعدها لابد أن تتحمل عدة دول عربية معا مسؤولياتها.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية