Ad

تنتقل الصين تدريجياً من اعتبار البلدان الإفريقية مجرد سوق رائج لتصريف منتجاتها الرخيصة والغزيرة إلى بناء صيغة من الشراكة في مجال التنمية، قد تعوض القارة السمراء عن جزء من خسائرها الفادحة خلال الحقبة الاستعمارية البغيضة.

عقدت في المقال السابق مقارنة بين مظاهر الفشل العربي وعلامات النجاح الصيني في اختراق أسواق إفريقيا، ثم عرجت على المبادئ التي تعتمد عليها بكين في سلوكها السياسي والاقتصادي حيال القارة السمراء، وذكرت مبدأين فقط، هما ترسيخ قيمة المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة، وعدم التدخل في شؤون دول القارة.

والمبدأ الثالث، هو مراعاة احتياجات المواطنين الأفارقة لسلع رخيصة ومتنوعة وضرورية، من خلال الدراسة المتأنية للأسواق، ولأنماط الاستهلاك، والتركيبة الطبقية، والعادات والتقاليد والسلوك، ومنظومة القيم السائدة، أما المبدأ الرابع، فهو المزاوجة بين إرضاء الأنظمة الحاكمة وعدم إغضاب الشعوب، فالزيارات الرسمية التي قام بها مسؤولون صينيون لدول إفريقية على مدار العقود الأخيرة، والتي وصلت إلى أكثر من 800 زيارة، تزامنت مع تأكيدات مستمرة لشعوب هذه الدول بأن علاقات بكين مع هذه الأنظمة ترمي في المقام الأول إلى تحقيق مصلحة الناس، ولا تشجع أي أعمال منافية لحقوق الإنسان والقانون الدولي.

ويعتمد المبدأ الخامس على تجنب الدخول في منافسة سافرة مع القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، التي تزاحم الصين في القارة السمراء، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، التي أبدت اهتماماً كبيراً بإفريقيا، بعد طول إهمال، حين اكتشفت أنها مكان واعد في مجال الطاقة. ومن هنا حرصت الصين على تأكيد عدم استهداف الاجتماع الأخير للمنتدى الصيني- الإفريقي أي طرف أو قوة دولية، وتشديدها على أن هذا التجمع الدولي ليس له هدف سوى تحقيق الاستقرار وتأمين السلام، وبناء الشراكة الاستراتيجية، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في القارة السمراء. وتعتمد الصين في هذا المضمار عامة على التغلغل الهادئ في أسواق إفريقيا ومفاصلها الاقتصادية والتجارية، بالتوازي مع تعزيز العلاقات السياسية البينية، والدفاع المدروس عن قضايا دول القارة في المحافل الدولية، وعن كفاحها المضني من أجل حيازة نظام اقتصادي وسياسي عالمي جديد، يجد فيه الأفارقة العدالة التي يتوقون إليها، ويعملون من أجلها، منذ زمن بعيد.

أما المبدأ السادس فهو التحلي بالرؤية الاستراتيجية العميقة، إذ تدرك الصين أن ارتقاءها كقطب عالمي يحتاج إلى ركائز عدة في مقدمتها، الحصول على نصيب وافر من مصادر الطاقة، التي تمتلك القارة الإفريقية قدراً ملموساً منها، يتعزز بمرور السنوات. فقد نما نصيب القارة السمراء من إجمالي النفط العالمي ليصبح 11% في العام المنصرم، في حين تتوقع الدراسات وصول هذه النسبة إلى 30% بحلول 2010، فضلا عن امتلاك إفريقيا نحو 10% من إجمالي الاحتياطي العالمي.

وتضع الصين نصب عينيها أن الولايات المتحدة تحاول أن تحرم منافسيها العالميين المحتملين ومنهم الصين من السيطرة على مصادر الطاقة، وهو ما يشكل أحد أسباب الاحتلال الأميركي للعراق، ووضع واشنطن يدها، عبر العلاقات السياسية والاقتصادية والاتفاقات التجارية والنفوذ العسكري، على قسط كبير من نفط بحر قزوين وغرب إفريقيا.

ونظرا لأن الصين تعاني نقصاً في الطاقة، حيث تنتج 3.5 ملايين برميل نفط يومياً بينما تستهلك 6.4 ملايين، فإنها في حاجة ماسة إلى البحث عن تعويض هذا النقص، خصوصاً مع تزايد القدرات الصناعية الصينية، حيث بلغ معدل النمو الصناعي 29.5% في عام 2005. ومع تحقيق الصين فائضاً في الميزان التجاري وصل إلى أكثر من 220 مليار دولار في العام المذكور، في وقت تقدمت فيه من المركز السابع والعشرين على مستوى العالم في مجال التجارة الخارجية عام 1978، إلى المركز السادس عشر عام 1990، ثم إلى المركز الثامن عام 2000، فالمركز الرابع عام 2003، وأخيرا الثالث في العام الماضي، بعد أن ازداد معدل الصادرات بنسبة 35.7% عما كان عليه قبل سنتين، ليصل إلى ما قيمته 1154.79 مليار دولار.

على هذه المبادئ تتقدم العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول إفريقيا، وتنتقل تدريجياً من اعتبار البلدان الإفريقية مجرد سوق رائج لتصريف منتجات الصين الرخيصة والغزيرة إلى بناء صيغة من الشراكة في مجال التنمية، قد تعوض القارة السمراء عن جزء من خسائرها الفادحة خلال الحقبة الاستعمارية البغيضة، وتفيد الصين في سعيها الجاد الطموح إلى أن تصبح قطباً عالمياً بارزاً، يعيد التوازن المفقود إلى النظام الدولي الراهن، وهو الوضع الذي يقض مضجع الولايات المتحدة ومعها أوروبا، التي لم تخف دولها هذه الهواجس خلال القمة الأوروبية- الإفريقية التي كانت قد استضافتها العاصمة البرتغالية لشبونة مطلع شهر ديسمبر الماضي، خصوصاً أن ما تفعله الصين يبدو ملهما للجنس الأصفر كله، الذي بدأ يلتفت إلى القارة السمراء بعد طول إهمال، وينافس الرجل الأبيض الذي استباح إفريقيا قرونا طويلة، ونهب ثرواتها، واستعبد أهلها.

* كاتب وباحث مصري