«ولد لأبي سبعة عشر ولدا لم يعش منهم سواي، فكان يحبني كثيرا، ولا تغفل عينه عن حراستي كيفما توجهت، ثم توفاه الله، فأصبحت يتيما قاصرا، وأبدل عزي ذلا، وكثيرا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري وهي: «ماذا عسى يكون مصير هذا الولد التعيس بعد أن فقد والديه؟» فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل، فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهمة غريبة حتى كاد يمر عليَّ أحيانا يومان ساعيان لا آكل ولا أنام إلا شيئا يسيرا. ومن جملة ما قاسيته أني كنت مسافرا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرا، فتركني رفاقي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، أما أنا فجعلت أجاهد نفسي في الماء وسعي، تتقاذفني الأمواج، وتستقبلني الصخور، حتى تهشمت يداي، وكانت لا تزالان يانعتين، ومازلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالما، وقد أصبحت هذه الجزيرة قسما من مملكتي الآن».

Ad

هذا ما قاله «محمد علي» عن طفولته، بعد أن أصبح حاكما لمصر. أو ـ بالأحرى ـ هذا ما وضعه «جورجي زيدان» على لسان «محمد علي» من وصف لطفولته في المقال الذي نشره بالعدد الثامن من مجلة الهلال، الصادر في أول أبريل (نيسان) 1893م ـ 14 من رمضان 1310 هـ، وهو كلام صحيح ـ إجمالا ـ في مضمونه، لكنه ليس دقيقا في تفاصيله. وأول هذه التفاصيل اللغة الفصحى المنمقة التي صيغت بها العبارة، والتي لا يعقل صدورها عن «محمد علي» الباشا التركي، الذي لم تكن العربية لغته الأم، ولا أتيح له أن يطلع على آدابها وعلومها، بل إنه لم يتح له الاطلاع على أي كتاب حتى منتصف عمره، فقد نشأ أميا حتى تولت إحدى جواريه تعليمه القراءة والكتابة وهو في الخامسة والأربعين من عمره. ثم أي عز وأي ذل هذا الذي تشير إليه العبارة بقولها «أبدل عزي ذلا» بينما التواريخ التي بين أيدينا تشير إلى أن والد «محمد علي» توفى ومحمد طفل صغير في الرابعة، فأي عز كان يشعر به ابن الرابعة؟!

ومن التفاصيل التي أعاد تدقيقها المؤرخ «إلياس الأيوبي» في كتابه «محمد علي ـ سيرته وأعماله وآثاره»، ناسبا تدقيقه أيضا إلى «محمد علي»، أن الواقعة لم تكن رحلة ولا سفرة، لكنها كانت سباقا للتجديف، تسلخ فيه جلد راحتي «محمد علي» وخارت عزائم أقرانه فانسحبوا من السباق، وواصل هو حتى أدرك الجزيرة التي أصبحت ضمن مملكته فيما بعد، التي يضيف «إلياس الأيوبي» أنها جزيرة «طشيوز».

خلاصة القصة ـ على أية حال ـ هي أن «محمد علي» اليتيم الوحيد أصبح ـ بفضل دأبه وكفاحه ـ حاكما لولاية واسعة قاعدتها مصر، ورجلا يخطب أقوى ملوك العالم وده ويخشون بأسه. ولنبدأ من البداية ـ ما دمنا نبحث عن إجابة لهذا السؤال المثير: هل كانت هناك مسيحية سرية في أسرة «محمد علي»؟ ـ لنبدأ من بداية الرجل الذي سماه العامة في مصر «باشا النصارى»، وأعلنت باسمه «أخوية» في أوروبا.

ولد «محمد علي»سنة 1769، السنة نفسها التي ولد فيها كل من: نابليون بونابرت، والقائد البريطاني «وولنغتون»، والأديب الفرنسي «شاتوبريان»، والشاعر الاسكتلندي «والتر سكوت»، والشاعر الألماني «شللر». وقد ولد في مدينة «قولة» التي تتبع الآن دولة «اليونان»، وكانت عند مولده محض قرية لا يزيد عدد سكانها على بضعة آلاف تابعة للدولة العثمانية، وأصل تسميتها أنها مبنية على صخرة، جنوبي مقدونيا على خليج كونتسا، تشبه الفرس، سماها الإسكندر الأكبر «بوسيفلا» نسبة لحصانه «بوسفلس». ثم سماها تجار مدينة «البندقية» الإيطالية «لا كافالا» ـ أي الفرس ـ ليحرف الاسم على يد الأتراك إلى «قافالة»، ثم «قوالة» أو «قولة» على يد العرب. بلد صغير إذا، مفتوح على البحر عبر خليج يحمل إليه تيارات الحضارة وأفكارها، ولا يدعها تمر مرور الكرام، يتعايش فيه الناس من مختلف الأعراق والديانات، وفي هذا البلد ولد «محمد علي» لأب يدعى «إبراهيم أغا علي» يعمل في خفارة الطرق، وأم لم يحفظ التاريخ اسمها، ولا نعرف عنها إلا أنها رحلت وتركت ابنها ـ الوحيد على قيد الحياة طفلا، ولم تترك له إلا أصداء رؤيا رأتها وهو جنين في بطنها، وفسرها العرافون بأن ابنها ينتظره مستقبل عظيم. كما رحل الأب في 1773م، فلم يجد الطفل عائلا إلا عمه «طوسون» الذي كان يشغل منصبا رفيعا في «قولة»، وقد أحسن العم رعاية الطفل إلى أن قُتل بأمر الباب العالي! ومن هنا نفهم سر إشفاق رفاق طفولة وصبا «محمد علي» على قرينهم الذي لم يعد له في الدنيا أحد، والذي رسمت ملامح شخصيته على يد رجلين من دون أن يقصدا، أولهما «شوربجي قولة» ـ أي حاكمها ـ الذي كان صديقا لأبيه «إبراهيم أغا»، فرباه مع ابنه تربية كانت أفضل ما يمكن أن يتاح لمثله، وإن خالطها بعض ذل السخرة، والسخرية أيضا. أما الرجل الثاني فهو «مسيو ليون» التاجر الفرنسي الذي أدار محلا تجاريا في قولة منذ 1771، والذي كان «الصدر الحنون» لـ»محمد علي» وصاحب الأثر الأكبر ـ ربما ـ في مستقبله وسلوكه.