مازلت أتذكر ذلك المشهد المعيب لصورة أصحاب الفكر المتطرف وهم يقفون مهللين مصفقين يعتليهم الزهو والفخر بانتصارهم على أمهاتهم وشقيقاتهم وزوجاتهم وبناتهم حين سقط قانون إعطاء المرأة الكويتية حقوقها السياسية... أتذكر هذه الصورة القديمة الآن بعد أن نجح القانون قبل حوالي أكثر من ثلاث سنوات، لكي أبين أن من يدخل السياسة لابد أن يتغير... وهم من قال أحد أعضاء حزبهم إن «مرسوم إعطاء المرأة حقوقها السياسية لن يمر إلا على الجثث»! وأذكرها الآن لكي أوضح أن الأفكار الجاهلية لابد لها أن تتهافت وتتساقط بسهولة كوريقات الشجر إذا ما هبت عليها رياح الخريف.

Ad

المصيبة أننا لم نتعلم من دروسنا الماضية... ولم نعد نميز بين الخريف والربيع... وهاهم يأتون مرة أخرى من خلال الديمقراطية التي كفّرتها أحزابهم وفكرهم التكفيري... وهاهم يقولونها ويكررونها بـ«الفم المليان» إن «الدستور خط أحمر»! «يالسخرية القدر»... ليدغدغوا بها مشاعر الناس ويوهموهم بأن لا همَّ لهم سوى الدفاع عن المواطنة والدستور والديمقراطية.

ولكن في الحقيقة تجتمع كل تيارات الإسلام السياسي وتلتقي في الهدف والغاية وتختلف في الوسيلة والآلية... فمراجعهم وأدبياتهم تبين بما لا يدع مجالا للشك أن أهدافهم الحقيقية هي إقامة نظام حكم إسلامي شامل لتلغي به الدولة الوطنية المدنية... ومن يقرأ مراجع وأدبيات فكر الإخوان المسلمين «الحركة الدستورية الإسلامية في الكويت»، يرى أنهم يستخدمون الديمقراطية كوسيلة ماكيفللية للتدرج في إقامة الدولة الإسلامية الشمولية «الركن الأساسي في برنامجهم السياسي» على أنقاض الدولة الوطنية المعاصرة. أما الفكر السلفي المتشدد فيرى أن الدولة الإسلامية «حسب مفهومهم الخاص» يجب أن تُفرض حالاً ولو بالقوة دون تأجيل أو تسويف.

ويعتقد هؤلاء السلفيون أن «الإخوان المسلمين» خرجوا عن الدين والملّة في استخدامهم الديمقراطية «الكافرة»، وفي تأجيلهم إقامة الدولة الإسلامية، بل اتهموهم بأنهم يتحججون بذلك من أجل مصالحهم الشخصية الآنية ليس إلا.

ولكن تراجع سلف الكويت عن تلك الآراء، وهم بذلك يشكلون حالة نادرة كونهم شذوا عن جماعتهم بقبولهم بالممارسة الديمقراطية التي يسعون من خلالها إلى تطبيق أجندتهم المتشددة، و«طلبنة» المجتمع من خلال تدمير ما تبقى من دولة الدستور والحريات التي يتشدقون بها زورا وبهتانا... فهم لا يؤمنون بها ولا بالعيش المشترك ولا بالأنسنة ولا بالمساواة ولا بحقوق الأقليات «التي كفلتها الديمقراطية»، ولكنهم يستفيدون من الحريات التي تتيحها ليدمروها خطوة خطوة ليستبدلوها بنظام شمولي مستبد يطبق فهمه الخاص للدين، ويجعل نفسه «ظل الله في الأرض» لأنه يفسر النصوص حسب ما يراه ليستمد منها شرعيته وسلطته، وليخلق طبقة كهنوتية حاكمة تتخذ «أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله».

في الحقيقة يجب علينا التفريق بين أصحاب الإسلام السياسي والمفكرين الإسلاميين التنويريين أمثال ابن رشد ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، الذين حاربوا الاستبداد السياسي والديني ودعوا إلى الحرية والمساواة والدولة المدنية التي تفصل بين الدين والسياسة... هي الدولة الوطنية التي تضم الجميع وليس فئة معينة... مؤكدين أن الإسلام في الأساس نظام مدني لا سياسي... ليأتي بعد ذلك الفكر الإخواني-السلفي البترودولاري ويستبدل الإسلام المعتدل التنويري «بصحوة» متطرفة ومتشددة.

في الواقع إن المجلس الحالي بأعضائه المتعصبين الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى فرض نموذج دولتهم «القروسطية» المتشددة تدريجيا هو مجلس تأزيمي وفاشل بكل المقاييس، ومعيق لكل محاولات التنمية والتقدم... وها نحن نعيش حالة غير مسبوقة من التراجع والردة والتخلف السياسي والاجتماعي والتنموي. فلم ينجح هذا المجلس إلا في نشر العداء والكراهية وتدمير المكتسبات الدستورية والحريات التي يدّعون أخيرا أنها خط أحمر بعد أن شعروا بدنو أجلهم في حال تم حل مجلس الأمة حلاً غير دستوري.

نعم نجحوا في كل ذلك وسقطوا سقوطاً مدوياً بالأخذ بيد الوطن إلى طريق التنمية والتقدم والازدهار.