شيخ الجبل... وشيوخ الكراهية!
تحسس «أحمد» حزامه الناسف للمرة الأخيرة «حمداً لله... كل شيء على ما يرام»، أخيرا حانت اللحظة التي انتظرها طويلا، منذ تحوله من ظلام الجاهلية والغفلة إلى نور الإيمان وطاعة الرحمن، وكلها لحظات معدودة، وينجز المهمة التي أوكلت إليه وينال شرف الشهادة ملتحقا بمن سبقه من الإخوة في الجنة، وآه... ما أجمل الجنة، حيث الحور الحسان وأنهار اللبن والخمر، والراحة والسعادة الأبدية!جزى الله الشيخ «مصلح» خير الجزاء، فهو الذي رشحه لهذه العملية، ولولاه لانتظر طويلا... طويلا جدا، وهل يطيق الانتظار في هذه الدنيا الفانية مؤمن صادق مثله، خلق من أجل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله!
يا الله... ما أشد شوقه إلى الجنة، إنه يكاد يشم رائحتها الآن! الأمور ميسرة بإذن الله، السوق ممتلئ بالبشر كما تمنى الشيخ «مصلح»، إنه أحد أشهر أسواق المدينة وأكبرها، واليوم هو يوم الإجازة الأسبوعية، وقد توافد الناس للشراء والجلوس في المقاهي وشرب القهوة «بالهناء والشفاء يا كفرة»! إنها لا شك فرصة رائعة لحصد أكبر عدد من رؤوسهم دفعة واحدة، «بركاتك يا شيخ مصلح... ودعاؤك أن يغفر الله لي خطيئتي»!فخطيئة «أحمد» أنه تردد بعض الشيء في أداء المهمة، حين علم أنها لن تكون ضد جيوش الكفار، إنما ضد مؤمنين يشهدون كما يشهد بوحدانية الله وبرسالة نبيه... فيا لحماقته الكبيرة!لقد اتضح أن تردده سببه جهله وقلة علمه، وكاد أن يضيع على نفسه الشهادة، لولا أن الشيخ «مصلح» جزاه الله خيراً نبهه لأمر فاته، وهو أن الله سوف يبعث قتلى عمليته الاستشهادية «على نياتهم»، فالأبرار منهم سيذهبون إلى النعيم، والفجار سيساقون إلى الجحيم، ولذلك كله، فلا جناح عليه ولا تثريب إن قتلهم جميعا شر قتلة، لأن كل واحد منهم سيلاقي المصير والجزاء الذي يستحقه... «لله درك يا شيخ مصلح... ما أكبر عقلك وأوسع علمك»!تحرك «أحمد» نحو أكثر الأماكن اكتظاظا بالبشر، وانحشر وسطهم، ثم في جزء من الثانية، سحب الحزام الناسف الذي يحيط بخصره، فتناثرت دماء وأشلاء النساء والأطفال والشيوخ والشباب من حوله في كل مكان، وتناثرت مع أشلائهم أشلاء «أحمد» الذي لم يجاوز السابعة عشرة من عمره بعد، الصراخ يملأ المكان، البكاء، النواح، وسيارات الإسعاف تحاول جاهدة نقل الضحايا إلى المستشفى، العملية ناجحة بكل المقاييس «الإرهابية»! والشيخ «مصلح» سعادته لا توصف وهو يسمع الأنباء الطيبة، ويستعد للتحضير لعملية أخرى، ينفذها «أحمد» آخر، لكنه قبل ذلك عليه أن يجري مكالمة تلفونية يطمئن بها على ابنه الذي يدرس الطب في لندن، وعلى ابنته التي تدرس الهندسة في أميركا!وفيما كانت روح «أحمد» تصعد إلى بارئها، كانت أمه تموت هماً وكمداً، ويذرف أبوه الدمع دماً، ويتقاسم أهالي ضحاياه الفواجع والمآسي والأحزان، وهم يصلون داعين الله لهم بالمغفرة والثواب الحسن، خلف الإمام التقي الورع، الشيخ «مصلح» حفظه الله من كل شر!وما أشبه الليلة بالبارحة! ففي القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ظهرت جماعة تدعى «الحشاشين» تزعّمها الحسن بن الصباح «شيخ الجبل»، وتكونت من آلاف المخلصين له في إيران ولبنان وسورية ومصر، كان يتحكم بهم، ويأمرهم بارتكاب جرائم القتل ضد الولاة والتجار وقادة الجيوش، فيطيعونه دون أدنى اعتراض!وكان يكافئهم بإدخالهم في إحدى القلاع التي يملكها، ثم يقدم لهم الحشيش محدثاً إياهم عن الجنة وما فيها، حتى يروا أشباحها وسط الدخان حين يدخل عليهم أجمل النساء، ثم يفتح لهم باباً يطل على حديقة غنّاء بين جبلين، تطل على نهر بديع، ويطوف عليهم فتية يسقونهم الخمر، فيخيل لهم أنهم قد دخلوا الجنة حقاً!ثم يخرجون للناس يؤكدون لهم أنهم قد رأوا الجنة، وأنها مفتوحة لكل من ينفذ مطالب الشيخ، ومطالبه هي، الاغتيالات، وتفجير الدماء في بطون ورؤوس الناس!كان شيخ الجبل هذا عجيبا، وخطيرا جداً! غير أن شيوخ الكراهية والإرهاب هذه الأيام، أخطر وأعنف منه بكثير، وضحاياهم بالعشرات والمئات والآلاف، أما «حشيشهم» المكون من مجموعة من الخطب الحماسية التي تحرض على التطرف والتزمت والإرهاب، فهو أشد مفعولا من حشيش شيخ الجبل بمرات، وهو يستهدف بعض الفتية صغار السن والعقل، ليغسل أدمغتهم الحديث الدائم عن هذه الدنيا الفانية التافهة التي يعيشونها حينا، وعن الجنة التي بانتظارهم إن «جاهدوا» بتفجير أنفسهم وسط جمع من «العصاة» و«الكفرة» حينا آخر!وما إن يستمع هؤلاء الصغار السذّج لهذه الخطب النارية، أو «التحشيش الفكري» حتى تتخدر خلايا أدمغتهم ويتلاشى وعيهم وإدراكهم، فلا يطيقون انتظاراً، ويصبح همهم كله الذهاب إلى هذه الجنة الموعودة بأسرع وقت ممكن ومهما كان الثمن، حتى إن كان قتل نفسه... وكل بني البشر!