التقى الكاتب الكندي «مورلي كلاهان» الروائي الجميل والفظ «ارنست همينغوي» في مدينة تورنتو، ثم اصطحبه الأخير الي مدينة الالهام «باريس» ليلتحقا ببقية المغتربين أمثال سكوت فيتزجرالد صاحب «غاتسبي العظيم»، ازرا باوند، وجيمس جويس. في تلك الرحلة قرر الاثنان أن يبتعدا عن التنافس الأدبي وأن يتنافسا في لعبة الملاكمة، اللعبة التي يحبان. «كلاهان» كان قصيرا وخفيفا وهمينغوي ضخما وعنيفا. المتفرج الوحيد وضابط الساعة الزمنية كان سكوت فيتزجرالد. كان همينغوي اتفق وكلاهان على دقيقة واحدة واستراحة لدقيقتين لمعرفته بخبرة خصمه، ولكن فيتزجرالد أهمل الساعة ومرت الدقيقة الأولى والثانية وفي الرابعة سقط همينغوى وهو ينزف صارخا بفيتزجرالد «عليك اللعنة عبثت بالزمن وهزمتني» وبصق الدم.

Ad

تمتاز اللغة العربية عن نظيراتها بالتفريق بين مصطلحي الزمن والوقت، بينما يترادف اللفظان في كلمة واحدة في الانكليزية والفرنسية، ولذلك لم يحسن «اندريه جيد» الاجابة حين سأله اميل زولا «أين نحن من الزمن الآن مسيو «جيد»؟ فأجاب بسرعة «انها الثامنة والنصف!».

يعتقد بعض الفلاسة أن الزمن يسير كنهر لا يمكن أن تستحم فيه مرتين وهنا يكمن الخلط بين الوقت والزمن. فالزمن لا يسير كما نظن باتجاه واحد. ولعله يدور، يعود الى الخلف، أو يتوقف تماما كما حدث مع الشاب بنيامين في رواية وليم فولكنر «الصخب والعنف». بنيامين أو «بنجي» -كما يدلعه الراوي وأبطاله- ظل حتى الثلاثين من عمره يعيش في زمن الخامسة ويفكر بعقل طفل الخامسة، يمر به الوقت ولا يعيش زمنه المفترض.

والآن دعونا نتساءل «أين نحن من الزمن الآن مسيو....؟».

افتراضا نحن نعيش القرن الحادي والعشرين، ولكن هل حقا نعيش زمننا؟ أشك في ذلك كثيرا! نحن كطفل فولكنر في القرن الحادي والعشرين ونفكر بعقل القرون الوسطى واذا أنصفنا أنفسنا فإننا نفكر بعقل ما قبل القرون الوسطى بكثير، مازالت الجملة الشهيرة «يا الهي الملكة حامل!» تحد من قدراتنا على أن نتقدم خطوة زمنية الى الأمام.

رغم كل جهودنا واجتهادنا بإرسال البعثات الفكرية والعلمية الى دول العالم منذ خمسين سنة، فمازلنا نجيز كتب السحر والشعوذة ويفتش عقول كتابنا ومفكرينا خريجو المتوسطة والثانوية رغم رحيل رجال التنوير أمثال أحمد العدواني وعبدالعزيز حسين الذي كان يصارع الزمن وهو يقول «اننا نعمل على أن نقطع في نهضتنا هذه خلال ربع قرن ما قطعه غيرنا في عشرة قرون»، مازالت أكثر كتبنا مبيعا كتب المطبخ وتفسير الأحلام وأجمل أعمالنا المسرحية هى الأقل سوءا عن مثيلاتها وأجمل برامجنا هي التي يتقاذف بها الضيوف بأسوأ الكلام. مازالت محاكمة أي أديب أو مفكر هي حق لكل من يرى أن تأويله للنص لا يتفق وفكره. مازال كتابنا لا يعرفون كم عدد الرقباء حولهم.

رغم كل ما يبذله شبابنا وبناتنا من جهد أدبي وفكري في محاولة للنهوض من الوضع السائد واختراق الفكر المسيطر على الساحة الثقافية، مازالت القوى التى تسير الى الخلف أعتى وأكثر تنظيما، والأسماء المبشرة ثقافيا هي بصيص النور الوحيد الذي يبعث على التفاؤل والكوة الوحيدة في هذا الجدار السميك والممتد بعمق الماضي البعيد.

عدا ذلك فنحن نعيش القرن الحادي والعشرين وقتا لا زمنا، تماما كما فصلت لغتنا العربية بين المترادفتين وهم يعيشون زمنهم ووقتهم كما اوحت لغاتهم. وسنبقى كذلك طالما «جماعتنا» تتحكم بساعة الزمن وتديره الى الوراء. سنظل كذلك حتى نصرخ بهم، «توقفوا، انكم تعبثون بزمننا!».