لم يكد يُعرف لروسيا من وجود في التاريخ غير ذلك الإمبراطوري، فالكيان ذاك وُلد امبراطوريةً، منذ أن ورثت دوقية موسكو الكبرى مملكةَ كييف، واشتد عودها فطفقت تضم ما حولها من أراض ومن سلطات محلية كانت قائمة عليها مبعثرة، وبدأت تتمدد، حتى إذا ما استولى الأتراك العثمانيون على القسطنطينية في سنة 1453 وأجهزوا على الإمبراطورية البيزنطية، أعلنت روسيا نفسها وريثة لهذه الأخيرة، حاملة لواء الديانة الأرثوذكسية، التي أضحت بمنزلة السمة الروحية الفارقة للعنصر السلافي وأساس هويته الثقافية.
بلغ من ارتباط الفكرة الإمبراطورية بالكيان الروسي ومن التلازم بينهما، أن البلد ذاك، إن صحت هذه التسمية في كيان مترامي الأطراف يمتد على القارتين (الأوروبية والآسيوية) متعدد الأعراق والشعوب، كان الوحيد الذي انتقل إلى الحداثة من دون أن يمر بمرحلة الدولة-الأمة مآلا إلزاميا، بل قفز على تلك المرحلة بأن ابتدع صيغةَ نظام تتجاوز النصاب الإمبراطوري التقليدي القديم «القيصري»، العابر للقوميات وللأعراق، إلى ضرب من إمبراطورية محدثة، حافظت على جُل مكتسبات سابقتها الترابية وسواها وعززت تلك المكاسب، هي الاتحاد السوفييتي. وهكذا، إن كان من أمر تجلت فيه عبقرية لينين واللينينية، فهو هذا: النجاح في إعادة اختراع نصاب إمبراطوري يُفترض أنه آل إلى فوات تاريخي، وإعادة إدراجه واقتراحه أفقا مستقبليا للبشرية، في عملية خلاقة كانت النظرية الشيوعية أداتها.كل ذلك للقول ان الحس الإمبراطوري يكاد يكون لدى روسيا غريزةً، وذلك ما جاءت الحرب الروسية-الجورجية الأخيرة لتذكير من كان له ناسيا أو لتنبيه من كان عنه ذاهلا، شأن الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، وهو من ساسة هذا الزمن، صنيعة وسائل الاتصال ممن يفتقرون إلى العمق التاريخي، الذي استفز روسيا فأيقظ كوامنها الإمبراطورية ومكنها من انبعاث كانت تتحين فرصته.إذ لم يكن خطأ ساكاشفيلي، الذي سرعان ما «ارتقى» إلى مرتبة الخطيئة، غير ذريعة عودة إلى القوة وسلوكِ مسلكها كانت مبرمجة في جينات الدولة الروسية على نحو ما أسلفنا، وفي ميزان قوة بدأ يميل إلى مصلحة موسكو، إرادة سياسية مُستعادة هي تلك التي عبر عنها وجسدها فلاديمير بوتين، رئيسَ دولة فرئيس حكومة، وعودة إلى الاستقرار وازدهارا اقتصاديا، وعائدات طائلة تدرها الثروة الغازية، وهذه إلى ذلك وبوصفها مُنتجا استراتيجيا أداة ضغط فعال، وازن في العلاقات الدولية.ولكن ما هو أهم من ذلك وما قد يتخطى الحالة الروسية، وإن كانت هذه الأخيرة قد أفصحت عنه على نحو دراماتيكي مشهود من خلال هذه الأزمة الجورجية، أن الواقعة تلك ربما اتسقت ضمن مسار أوسع، كوني المدى، هو المتمثل في انبعاث الإمبراطوريات، على أنقاض الأحادية القطبية التي كانت من نصيب الولايات المتحدة طوال نحو العقدين، أي منذ انتصارها المبرم في الحرب الباردة، وآن أوان انصرام عهدها.إذ يبدو أن في التحول ذاك الذي جاءت به الحرب الباردة، إذ أفضى إلى العولمة أو تزامن معها، وإذ أنتج، تبعا لذلك، تجاوزا للدولة-الأمة التي كانت طوال حقبة الاستقطاب الثنائي الوحدة الأولى أو الأولية التي يقوم عليها معمار العالم، ما يشير إلى أن التجاوز ذاك سيتم، أقله من باب الترجيح القوي، نحو تعددية قطبية، تلوح الآن احتمالا مستقبليا في حكم المؤكد، أساسها التنافس بين إمبراطوريات، متفاوتة الحجم والسطوة والمدى، ولكنها ترسم ملامح عالم الغد القريب أو الذي يعتمل تحت أعيننا انتقالا باديا، ملموسا أو يكاد.فروسيا ليست القوة الوحيدة التي تساورها مثل تلك الأحلام والاندفاعات الإمبراطورية. ذلك شأن الصين أيضا التي لم تنس أنها كانت، في زمن ليس بالبعيد تتسمى «إمبراطورية الوسط» (تعني بذلك «وسط العالم» أي مركزه)، والتي ما انفكت تراكم، منذ طفرتها الاقتصادية المطردة منذ عقدين من الزمن، سطوة أضحت لا تتردد في تصريفها نفوذا يتعدى جوارها المباشر إلى أصقاع من العالم قصيّة، بل إننا نلحظ ذلك النزوع الإمبراطوري لدى قوى أقل شأنا، تقع في مجالنا الإقليمي، شأن جمهورية إيران الإسلامية، ذات الباع المعلوم في استغلال تمددها المذهبي للتأثير في جوارها المباشر، غير عابئة بالدول وبالكيانات، حتى بلغت في ذلك مبلغ الاستحواذ على زمام المبادرة، كما في لبنان على سبيل المثال. كما أن تركيا قد تنساق بدورها في مثل ذلك النزوع الإمبراطوري على نحو حتمي أو يكاد، بالنظر إلى ضلوعها العرقي واللغوي بعيدا في أرجاء آسيا الوسطى وبالنظر إلى هويتها المذهبية في المجال السني الإسلامي.وإذا ما تأكد مثل ذلك المنحى الإمبراطوري تطورا كونيا محتملا، فيسعني ذلك أن العالم سينقسم بين مراكز إمبراطورية حائزة السيادة، وبين أطراف هي مجال للتنافس وللسيطرة الإمبراطورييْن. والأرجح أن العالم العربي سيكون في عداد هذه الأخيرة.* كاتب تونسي
مقالات
غرائز إمبراطورية
19-08-2008