لا بُدَّ من حسم المعركة السياسية اليوم في لبنان لمصلحة طرف سياسي ما، لكي لا يُعاد رفع شعار «لا غالب ولا مغلوب»، ولكي لا تعود عروض السيرك المملة من جديد بعد فترة. ولو انتهت المعركة السياسية اللبنانية الحالية بشعار «لا غالب ولا مغلوب»، وتغليب «التوافقية» الزائفة، فمعنى ذلك أن المتصارعين السياسيين اللبنانيين قد انكشف أمرهم.1- بدأت الأزمة اللبنانية بعد الانسحاب العسكري السوري عام 2005، وبقاء الوجود السياسي السوري عن طريق حلفاء سورية من السياسيين اللبنانيين المسلمين والمسيحيين والدروز، وبقاء الوجود الاستخباراتي السوري عن طريق الاختراقات السورية للأمن اللبناني، وكان آخرها افتضاح الاختراق السوري - الإيراني لأمن مطار بيروت، الذي كان جزءاً كبيراً من تفجير الأزمة اللبنانية الحالية، التي استكملت كل عناصر الحرب الأهلية، بإصرار الطرفين المتحاربين (الموالاة والمعارضة) على قراراتهما، وعدم الرجوع عنها.
والقرارات التي أصدرتها الحكومة اللبنانية، المتمثلة بنقل مدير أمن مطار بيروت من منصبه واستبداله بآخر، وتفكيك أجهزة الاتصالات التابعة لـ«حزب الله»، ليست هي وحدها التي ولدت شرارة الحرب الأهلية المحتملة في لبنان، إنما بدأت بوادر نشوب هذه الحرب منذ أن انسحب الجيش السوري من لبنان 2005، وإعلان الرئيس بشار الأسد المعروف، بأنه سيحرق لبنان من ورائه. وها هي الحرائق بدأت ترتفع من جديد، وطبول الحرب الأهلية بدأت تُقرع. زيادة على ذلك فإن تراجع السيطرة السورية - الإيرانية في العراق منذ مدة، والقضاء على جزء كبير من ميليشيات هذين القطرين، دفع هذين الفريقين إلى اختيار هذا الوقت، لإشعال نار حرب في لبنان، تعويضاً عما فقداه في العراق، كما قال كثير من المحللين السياسيين في الشرق والغرب.
2- فهل يتحارب اللبنانيون الآن، لأن فريقاً من الفريقين المتحاربين، أصبح متيقناً من انتصاره العسكري، ومحوه للمقولة السياسية اللبنانية المشهورة: «لا غالب ولا مغلوب».
أظن أن هذا صحيح. فلقد امّحت مقولة «لا غالب ولا مغلوب»، التي ظهرت على لسان رئيس وزراء لبنان الأسبق صائب سلام في الخمسينيات. والدليل على ذلك بكل بساطة، أنه لم يسبق لأي حرب أهلية لبنانية أن خاضتها ميليشيا مسلحة وقوية عدداً وعدة كـ«حزب الله» و«حركة أمل» متضامنتين، مقابل فريق آخر (الموالاة) ضعيف، ولديه عقدة ذنب كبيرة من الحرب الأهلية اللبنانية السابقة (1975-1990)، ولا يريد تكرار ما حصل.
لقد سبق أن قلنا إن لبنان درج بعد كل معركة سياسية أو عسكرية أو ميليشياوية، أن يرفع في نهاية كل معركة شعار «لا غالب ولا مغلوب»، لكي تهدأ المعارك، ويعود لبنان إلى «التوافق» الطائفي الزائف والمؤقت، وليعود بعد سنوات- ولأي سبب داخلي أو خارجي- إلى صراعاته بين طوائفه، وليخرج من هذه الصراعات بشعار «لا غالب ولا مغلوب». ولكن الحرب الحالية حرب مختلفة، فسيكون فيها غالب ومغلوب. وقد بدأت علامات الغالب والمغلوب تظهر الآن بشكل واضح.
ذلك أن القوى الخارجية الإقليمية والدولية- وهي التي تمسك بخيوط اللعبة السياسية اللبنانية بالمال والسطوة، وتصفّي حساباتها مع بعضها بعضاً على الأرض اللبنانية- هي التي ستخرج من لبنان هذه المرة بنتيجة أن هناك غالباً ومغلوباً، وليس فقط بعض الزعماء السياسيين اللبنانيين. فهل استعاضت أميركا عن ضرب إيران وسورية في العمق ومباشرة، بضربهما على الأرض اللبنانية؟
وهل سترضى أميركا، وربما مع بعض حلفائها الغربيين (بريطانيا وفرنسا) والشرق أوسطيين، بالمقولة اللبنانية «لا غالب ولا مغلوب» كالعادة، كنتيجة لمعركة «الاتصالات والمطار»، أم أن إدارة الرئيس بوش عازمة هذه المرة على خوض معركة حاسمة مع سورية وإيران انتقاماً لضحاياها في العراق، ونصرة لحلفائها في لبنان والعالم العربي على السواء؟
3-اللبنانيون لا يتحاربون، ولا يتخاصمون، من أجل سعادة وازدهار وطنهم، إنما يتحاربون ويتخاصمون لحساب الآخرين، مقابل منافع ومبالغ معلومة. فالسياسة لم تُهَنْ ولم تُعرَضْ في أسواق النخاسة، كما عُرضت وابتُذلت وأُهينت في لبنان، وأصبحت أقصر الطرق إلى المال والنفوذ.
فهكذا كانت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) الشهيرة، التي يندم عليها ابن الشارع اللبناني أشد الندم، ولكن السياسيين اللبنانيين مستعدون لخوضها كل يوم، وكل شهر، وكل سنة، فيما لو توافر في الشرق الأوسط المتخاصمون الإقليميون الذين لديهم القدرة على إرسال وتأمين حطب (المال والسلاح) هذه الحرب. أما شعار «لا غالب ولا مغلوب»، فيمكن أن ينقلب إلى «غالب ومغلوب»، فيما لو أراد الزبون ذلك. فليس أعزّ ولا أرفع من الزبون في لبنان. وفي لبنان وحده يشعر الزبون بأنه ملك الملوك، وإمبراطور الأباطرة، ما دامت يده لا تخرج من جيبه إلا مليئة. والحروب في لبنان تنشب وتنتهي بإرادة الزبون الإقليمي والدولي. فهو «العم الكبير»، و«المعلم الكبير»، الذي يبدأ الحرب وينهيها. وهو اليوم كما لم يكن في أي وقت مضى.
4-الزعماء السياسيون اللبنانيون، ما هم إلا وسطاء (سماسرة) كوسطاء البورصة والأسواق المالية والعقارية. ينفذون أوامر إقليمية ودولية بالبيع أو الشراء، مقابل نسبة عمولات متفق عليها. ولذا، فهم سرعان ما يفتعلون الأزمات السياسية في كل مرحلة طالت أو قُصرت، لكي ينشّطوا السوق السياسية، ويبيعوا ويشتروا فيها لحساب الآخرين، الذين يستعملون لبنان كرقعة للعبة شطرنج الشرق الأوسط. ولبنان، هو البلد المؤهل الوحيد في الشرق الأوسط لمثل هذا الدور، حيث لا يملك قراره السياسي حزب وحيد من بين الأحزاب، ولا طائفة وحيدة من بين الطوائف. ورفعُ شعار «لا غالب ولا مغلوب» في الماضي حتى قبل 7/5/2008، هو من أجل أن تنشط آلة الحرب اللبنانية، وتتكرر دائماً المعارك السياسية والعسكرية، ولا تُحسم لأي جهة كانت. وبذا، تستطيع كل الطوائف الكبيرة والصغيرة اللاعبة والمهمّشة أن تأكل من وراء السمسرة السياسية، التي يقوم بها زعماؤها السياسيون، ويرمون بالفتات فقط للمناصرين والأتباع، وأهالي المفقودين في الحرب. فقد ذهب الرفاق في الحرب الأهلية السابقة وبقي الزعماء.
5-إذن، لا بُدَّ من حسم المعركة السياسية اليوم في لبنان لمصلحة طرف سياسي ما، لكي لا يُعاد رفع شعار «لا غالب ولا مغلوب»، ولكي لا تعود عروض السيرك المملة من جديد بعد فترة. ولو انتهت المعركة السياسية اللبنانية الحالية بشعار «لا غالب ولا مغلوب»- وهذا غير ممكن حسب ما نرى الآن- وتغليب «التوافقية» الزائفة، فمعنى ذلك أن المتصارعين السياسيين اللبنانيين قد انكشف أمرهم- إن لم يكن قد انكشف بعد- وثبت زيفهم. وأنهم أو أبناؤهم أو أحفادهم سيعيدون كرة الأزمات السياسية من جديد، لكي يتولّوا دورهم في السمسرة السياسية، ويملأوا جيوبهم بمالها، ويخرجوا من جديد بشعار « لا غالب ولا مغلوب». فالأزمات السياسية الكبرى في التاريخ العربي والغربي لم تحسم حسماً نهائياً، إلا عندما خرج منها غالب ومغلوب.
فالخلاف القبلي والعصبي بين معاوية بن أبي سفيان مع علي بن أبي طالب على الخلافة الإسلامية، لم يُحسم نهائياً إلا بخروج غالب ومغلوب من معركة «صفين» عام 657 م.
ومعركة الدكتاتورية والديمقراطية الإسبانية في 1936، لم تُحسم لمصلحة الديمقراطية إلا عندما خرج الدكتاتور فرانكو مغلوباً والديمقراطية غالبة. ومعركة الحداثة والقدامة في تونس مطلع الخمسينيات، لم تُحسم إلا عندما خرجت منها القدامة مغلوبة، والحداثة غالبة بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة، والتحول الاجتماعي الكبير الذي أحدثه بصدور «مجلة الأحوال الشخصية» 1956، والانقلاب الثقافي والديني الذي أحدثه في جامعة «الزيتونة».
والاعتداء الصدامي الغاشم على الكويت لم يُحسم إلا عندما خرج صدام حسين مغلوباً 1991. ونهاية دكتاتورية حزب البعث في العراق لم تُحسم -جزئياً- إلا بعد عام 2003 عندما انتصر الشعب العراقي، وهُزم حكم الحزب الواحد، وخرج مغلوباً.
* كاتب أردني