ما من شك أن هناك فئة من المواطنين تعاني شظف العيش وترهق كاهلها ديون أجبرت عليها نتيجة ظروف معيشية صعبة، وهي بأمس الحاجة إلى مساعدة الدولة التي يُفترض أن تتم من خلال سياسات عامة واضحة وشفافة ومحافظة على كرامتهم الإنسانية. وللأسف، فإن الحكومة قد فشلت في معالجة هذه المشكلة منذ الأساس ثم تباطأت بعد ذلك في تنفيذ الرغبة الأميرية السامية بإنشاء صندوق لمعالجة مشكلة المعسرين.

Ad

وهذا ما جعل الحملة التي يتبناها عدد من أعضاء المجلس بإسقاط مديونيات المواطنين كافة تلقى تجاوباً شعبياً مع أنها في الحقيقة لن تحسِّن من مستوى معيشة فئة المواطنين التي تحتاج إلى المساعدة ولن تساعدها على استقرار أوضاعها المعيشية، بل إنها ستزيد من النهم الاستهلاكي البذخي بشكل عام وتشجع على عدم الادخار.

فلو افترضنا أن الحكومة اشترت مديونيات المواطنين كافة لدى البنوك والمؤسسات المالية التجارية، مع عدم عدالة هذا الفعل وتعديه على المال العام، فمن يضمن، في ظل النمط الاستهلاكي البذخي الطاغي في مجتمعنا، ألا يعاود هؤلاء المواطنون الاقتراض مرة أخرى؟

على الضفة الأخرى، فإن هناك شركات ومؤسسات استثمارية خاصة كانت تمتلك إدارة كفؤة حريصة على أموال المساهمين وكانت لها مساهمات ملموسة في دعم الاقتصاد الوطني، ولكنها تعرضت لهزات مالية نتيجة للأزمة المالية العالمية وهي بحاجة الآن إلى تدخل الدولة بشرط أن يكون هذا التدخل ضمن معايير شفافة وواضحة تضمن المحافظة على المال العام. وحتماً فإن تدخل الدول سيختلف من قطاع اقتصادي لآخر ومن شركة استثمارية لأخرى حسب معايير كثيرة، لذا نجد أنه من أجل الحفاظ على المال العام من ناحية وضمان حقوق المساهمين والمودعين وتعزيز الاستقرار المالي للدولة من الناحية الأخرى، بادرت بعض الدول الرأسمالية مثل أميركا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى إلى تأميم بعض الشركات الاستثمارية وعدد من البنوك التجارية.

ولكن الأمر المثير للدهشة لدينا أن هناك طرفين يحاول كل منهما استنزاف المال العام بطريقته الخاصة من خلال خلط الأمور وتعميمها، فنجد أن الطرف الأول يطالب بإسقاط مديونيات المواطنين كافة من دون تمييز بين نوعية هذه المديونيات، في حين يطالب الآخر بعملية «إنقاذ» للشركات الاستثمارية كافة سواء الناجحة منها أو المتعثرة والخاسرة التي تواجه احتمالات الإفلاس. والأخطر من ذلك أن هناك ما يشبه عملية المقايضة بين الطرفين «أسقطوا القروض نوافق على عملية دعم الشركات» مع أن كلا المشروعين، مع فارق التكلفة المالية بينهما، ينطوي على استباحة للمال العام، حيث إننا نجد مثلاً أن بعض الشركات الاستثمارية التي سيشملها مشروع الدعم الحكومي كان يراكِم الأرباح الخيالية عبر السنين مع أن تلك الشركات لا تمثل أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، فهي لا تدفع ضرائب للدولة، ولا تقوم بأداء وظائفها الاجتماعية، وما خسائرها الحالية إلا نتيجة لمضاربات سريعة الربح وصفقات مالية مغامرة اتخذ قراراتها قياديو هذه الشركات بمحض إرادتهم، لذا فإن عملية تسليمها مبالغ نقدية مباشرة من المال العام «لتعديل أوضاعها» تعد بمنزلة هدر للمال العام.

وكذلك هو الحال، مع فارق التشبيه، بمَن قام من المواطنين، بمحض إرادته ومن أجل تلبية رغباته الاستهلاكية ذات النمط البذخي، بالاقتراض من البنوك التجارية أو مؤسسات الإقراض الأخرى.

إن من واجب الدولة التدخل من أجل إنقاذ الاقتصاد الوطني، ومن أوجب واجباتها تحسين مستوى معيشة مواطنيها، لكن المطلوب، كما يبين الدستور، هو أن تتوافر صفة العدالة والمساواة في القرارات العامة مع المحافظة على حرمة الأموال العامة. ولكن، للأسف، فإن ذلك لا يتوافر في كلا المشروعين الحاليين سواء المشروع الحكومي «لتعزيز الاستقرار المالي للدولة» أو المشروع النيابي لإسقاط مديونيات المواطنين.