العجب كل العجب من أولئك المتحدثين باسم الدين... حين يخلطون المقدس بلعبة المصالح الدنيوية، وحين يغالون بالدين ويسفهون الرأي المختلف عنهم ليخدعوا الناس بأجوبتهم المعلبة الجاهزة، وحين يطلبون من كل الناس طاعة أمرهم واتباعهم وقبول تفسيرهم وحدهم دون تفسير آخر من خلال توظيفهم للنصوص الدينية التي يخرجونها من سياقها الزمني والتاريخي وتمسكهم بالمنهج الحرفي والانتقائي دون الأخذ بمعرفة أسباب النزول.

Ad

ومعرفة أسباب النزول هنا هي قضية شديدة الأهمية، فقد رد ابن عباس على تساؤل عمر بن الخطاب المعروف: "كيف تختلف أمة الاسلام ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟" في قوله: "لقد أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولايدرون فيم نزل. فيكون لهم فيه رأي، ثم يختلفون في الآراء، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه".

في الواقع، تكمن المشكلة الرئيسية في الخلط بين "الإسلام" والاجتهادات البشرية التي اختلف عليها المسلمون واجتهدوا فيها ليتعاملوا مع ظروف عصرهم... وقد غيَّر الإمام الشافعي من فقهه عندما انتقل من العراق إلى مصر، ليتلاءم مع ظروف المكان، فما بالك بظروف المكان والزمان.

فاختلاط النصوص الدينية المقدسة بالكثير من الفهم البشري أدى إلى إضافة القدسية على تلك التفسيرات والادعاء بامتلاك الحقيقة عبر تحويل بعض المفاهيم البشرية إلى حقائق ثابتة ومسلمات قاطعة يتهمون مَن يخالفها اتهامات تكفيرية ترهيبية، وهو سبب ما نعانيه من تشدد وغلو وتعصب، خصوصاً حين يتم توظيفها لأغراض سياسية ومصلحية... ومثال على ذلك توظيفهم لما يتعلق بلفظ "الحكم بما أنزل الله" الذي ورد في القرآن الكريم في الآيات "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" والتي يفسرونها على أن الحكم بغير حكم الله هو كفر... ولكن تلك الآيات الكريمة، التي تستخدم من أجل تحقيق مكاسب انتخابية وسياسية، نزلت في أهل الكتاب لأسباب ظرفية، بخصوص ديَّة القتيل لديهم وانحرافهم عما استقر عليه الحكم في شرعهم، وأنهم هم وحدهم المعنيون بهذه الآيات وليس المسلمين، كما ذكر معظم مفسري القرآن الثقاة مثل القرطبي، والسيوطي، والبيضاوي، والنسفي، والطبري، والزمخشري. فالطبري يقول إن "رسول الله صلى الله عليه وسلم روى هذه الآيات لنزولها في أهل الكتاب ولاعلاقة لها بالمسلمين"، كما يروي الزمخشري عن ابن عباس هذا التفسير كذلك، أما القرطبي فيقول: "إنها في أهل الكتاب كلها".

أما التوظيف الآخر للدين فهو في الفتوى التي أثَّمت كل مَن يصوِّت للمرأة بالرغم من عدم ورود أي تحريم لولاية المرأة في القرآن، بل على العكس من ذلك أتت الآية التالية صريحة وواضحة حيث قال تعالى:"المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".. بل أثنى القرآن على ولاية ملكة سبأ حيث قال:"قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون".

ولكن تلك الجماعات المتطرفة تنتهج النهج التكفيري في توصيف كل مَن يخالف رأيها وتنعتهم بالزنادقة والكفار وغيرها من المسميات التي تزرع الخوف في نفوس الناس، متناسين قول الله تعالى "لست عليهم بمسيطر"، "لست عليهم بوكيل". فهم يحاربون الاجتهادات العقلانية باستخدامهم لعبارة "انكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة"، وهو اتهام مباشر بالردّة عن الدين، على الرغم من عدم ورود هذه العبارة مطلقا لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، ولا في آراء أئمة الفقه، لكنها جاءت لاحقا في كتب الفقه مثل حاشية ابن عابدين. والسؤال هنا: هل كان التنويريون الإسلاميون، مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم، من الزنادقة والكفار حين عقلنوا الخطاب الديني ودعوا إلى الاختلاف وعدم التقيد بمذهب واحد انطلاقا من قوله تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً"؟

إن اختلاف الرؤى الإسلامية وغير الاسلامية رحمة... والاختلاف سُنّة الكون، والأمم المتحضرة تقبل حق الاختلاف والتنوع والتعددية لذلك تبقى وتزدهر، أما عدا ذلك فيسمى إرهابا وتعصباً وغلواً ومصيره الفناء والهلاك وهو ما نهى عنه النبي الكريم (ص) في قوله: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين".

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء