لا أحب الكتابة عن كاتب بعد موته وكأننا نكتشف الآن فقط انه كان حياً! ولكنها، أي الكتابة، تبدو خطاباً عربياً أصيلاً في المقالة نستمدها من أحد فنوننا الكتابية، الشعرية تحديداً، تلك المفعمة بفن الرثاء، ولكن الراحل الطيب صالح ليس أديباً عادياً وروايته التي شغل الناس بها جاءت لتكمل نسقاً أدبياً حول صراع الحضارات وإشكالية الشرقي في الغرب، أو فهم المغترب للغرب.

Ad

حين قرأت الرواية الصادرة عام 1966 كانت في طبعتها الثامنة، على ما أذكر، بتحريض من الدكتور أحمد الربعي واقترنت برواية سهيل إدريس الحي اللاتيني، كل حسب موقعه من الاستعمار. حاولت أن أقرأ للطيب رواية أخرى ففضلت التوقف عند موسم الهجرة للشمال. الرواية التي أصبحت في ما بعد، مفتاحاً لكثير من الدراسات الكلولونانية لكاتب من دول عاصرت استعماراً بريطانياً وثقافة اللغة الثانية سياسياً وعلمياً واجتماعياً، ولذلك جاء حضورها السياسي الذي طغى على حضورها الفني.

عاش الطيب صالح عالمه الروائي بين نقاد وضعوا عمله على هرم الأعمال العربية وآخرين مزجوا بين حياته الشخصية وعالم الخيال لديه، فالرجل عاش كما عاش بطله مصطفى سعيد مهاجراً إلى لندن واقترن بامرأة من سكوتلندا أنجب منها ثلاث بنات ومات في لندن. وتلك اشكالية أغلب الروائيين حين نلجأ إلى رصد حياتهم الشخصية وتتبعها بين أسطر رواياتهم وكأننا بلغنا ذروة الاكتشاف. واتفق معه أن حياته في لندن ليست حياة البطل الممزق بين الشرق والغرب والذي لم يتفق معه الروائي نفسه. كان صالح متسقاً مع بريطانيته مخلصاً لعربيته الانسانية والفنية، وأنكر أكثر من مرة أي علاقة بينه كشخص روائي وبين بطله. ألم يقل اينشتاين «الخيال أكثر أهمية من المعرفة؟»، وليس لنا أن ننكر ابتكار خيال الرجل ومساهمته في وضع الرواية العربية على الخارطة الكونية بعد أن ترجمت الرواية لأكثر من عشرين لغة.

ولم يجد الكاتب الذي نعته الحكومة السودانية سوى المنع الذي يعانيه كثيرون غيره، ففي تسعينيات القرن الماضي منعت روايته من التدوال بحجة أنها روايه اباحية وتلك رؤية من الأعلى الى الأسفل، أما الرؤية الحقيقة من الأعلى الى الأسفل، فالرواية هاجمت الوضع السياسي في السودان ويمكن تعميم ذلك على المشرق الذي غادره الكاتب الى الغرب.

عاش الطيب صالح ككل الطيبين الصالحين ممزقاً بين عالمين، يرفضه الأول لكونه غريبا مهاجرا بلا جذور، ويرفضه الآخر لأنه قادم بأفكار غريبة لا تمت الى منبته بصلة، ولكن ما يخفف عليه هو تقبل المتلقي العربي لروايته التي حققت طبعات لم تحققها أي رواية عربية حتى الآن.

اليوم بعد أن أخذت العولمة وما بعد الكولونالية حقها من البحث والدراسة على أيدي مجموعة من كتاب الشرق والغرب، ستبقى رواية موسم الهجرة للشمال أحد أهم المراجع الروائية لتلك الأبحاث، فشخصية مصطفي سعيد هي نموذج الرجل المحاكي كما يرى نيبول. الرجل الذي يرتكز على مشرق عانى كثيراً القهر والاستلاب، بدءاً من المد الصليبي، مروراً بالاستعمار، وانتهاء بالامبريالية، ولذلك جاءت علاقته الهشة بالمرأة العربية مؤسسة على انعدام التوافق الحضاري بين عنصرية لونين مختلفين وثقافتين متصادمتين، وما فعله بها مشهد لا يخلو من انتقام المستعمر ممن استعمره. كان سعيد يحب أن يلعب دور السيد الذي لعبه الأبيض ويطرب لصوت المرأة البيضاء آن هاموند وهي تقول نعم سيدي. الدور الذي عاشه الرجل الافريقي زمنا وهو يرد على سيده الأبيض.

رحل الطيب صالح في لندن تاركاً لنا الكثير من القراءات الممكنة لعمل استثنائي، وتاركاً لنا برد هذا الشمال الذى انزوينا فيه.