إعلام الحروب وحروب الإعلام
كثيراً ما حظيت الحرب بمَن يقدسها، ويحتفي بها، وربما يعبدها على مر التاريخ، أما السلام فحل، غالباً، كلعنة على مَن روّج له وآمن به، ليجلب عليه اتهامات بـ«العمالة» أو «الخيانة».وبينما تقترن الدعوة إلى الحرب بدعاوى الفخار الوطني أو القومي أو الديني، ويُقدم عرابوها على أنهم «أبطال» و«أبرار»، تقترن دعوات السلم باتهامات بـ«الانهزامية» و«الخضوع»، ويوصم بعض صانعيه بـ«العار»، هذا ما يحدث عادةً، فالحرب «تولد في عقول الرجال».
كيف تولد الحرب في عقول الرجال إذن؟ تلك صناعة الإعلام ولعبته الدائمة، وتلك هي اللعبة التي نتلظى بنيرانها الآن، منذ فُتح السجال بين القوى المتزمتة والمتطرفة في كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية.يقول هتلر في كتابه «كفاحي»: «إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية، ستقوم به في المستقبل الدعاية الثورية، التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها»، وقد تحقق فعلاً ما قاله هتلر، وباتت وسائل الإعلام، في أحيان كثيرة، وسائل عسكرية وأعمال حرب بامتياز.ثلاثة أطر ينطلق منها الإعلام في ممارسته غير المهنية خلال أعمال الحرب أو قبلها وبعدها، فيساعد، عن عمد أو غير عمد، على تهيئة الأوضاع للنزاع، وربما إشعاله والتعجيل بوقوعه، فضلاً عن تأجيجه وزيادة حدته.الإطار الأول إطار القضايا Issue Frame، إذ يسلط الإعلام الضوء على قضايا بعينها ويحجبه عن قضايا أخرى، يركز الإعلام على الإشارات العدوانية والخطوات التحضيرية التي يتخذها الخصم، ويغض النظر عن الإشارات التفاوضية والسلمية، ويجتهد في تعظيم الصور السلبية والطبيعة الصارمة للخصم في مقابل إخفاء الصور الإيجابية والطبيعة الإنسانية لأنشطته وعملياته. يعطي الإعلام الانطباعات اللازمة كلها لتصوير أن «الحرب خيار حتمي»، ويقود الجمهور ببساطة إلى ترجيح هذا الخيار، قبل أن تتكشف الحقائق لاحقا،ً بعدما تظهر القضايا المخبأة والمؤجل إعلانها. الإطار الثاني إطار الصورة Image Frame، إذ يصنع الإعلام صورة ذهنية واضحة للخصم «العدو»، تقدمه إلى الجمهور على أنه قوي، إذ ليس شرفاً أن تهزم خصماً ضعيفاً فضلاً عن أن تنازله، وغير أخلاقي وغير إنساني بالمرة، إذ يجب أن يكون متدنياً أخلاقياً حتى تبرز الذرائع الأخلاقية اللازمة لتدميره. وتختلف الصورة الذهنية التي يروّج لها الإعلام عن الخصم، في بعض تفصيلاتها، باختلاف سلم القيم السائدة في المجتمع، فإذا كان الإعلام يستهدف جمهوراً محافظاً، فالعدو يمكن أن يكون «منحلاً»، وإذا كان يستهدف جمهوراً منفتحاً، فالعدو بالضرورة «متزمت ورجعي»، وهكذا تلعب الصورة الذهنية لعبتها في حشد الكراهية والاحتقار والاستهداف لدى الجمهور تجاه العدو المفترض.الإطار الثالث إطار التأويل Strategy Frame، إذ تصاغ الأحداث بتأويل مغلوط مقصود بغرض حرف اتجاهات الجمهور تجاه القضايا المتنازع عليها، ومواقف الخصوم، وتوجهات الحلفاء، وفي هذا الإطار تصاغ عملية احتلال دولة أخرى على أنها «تدخل دولي إنساني»، وتوصف الثورة بأنها «انقلاب»، وكذلك الانقلاب قد يوصف بأنه «عملية تحرر»، وتُنسب الصفات والأدوار حسب المواقف والحالات المحددة التي يستهدف القائمون على الإعلام فيها الإضرار بطرف أو رفع قدره لدى الجمهور المستهدف.فإذا نظرنا إلى ما يصلنا يومياً من أخبار وتحليلات وتعليقات من الولايات المتحدة من جهة ومن إيران من جهة أخرى، لوجدنا أننا بصدد تهيئة مبرمجة لجرنا جميعاً إلى الحرب، وكأنها الخيار الحتمي الوحيد الذي لا مفر منه. فالإيرانيون يهددون يومياً بقصف أوروبا ومن ورائها الولايات المتحدة، التي تمثل «الشيطان الأكبر»، و«قوى الاستكبار» العالمي، كما يهددون بغلق مضيق هرمز، وضرب المصالح النفطية في الخليج، وإشعال منطقة الشرق الأوسط، عبر استخدام حلفائهم وتثويرهم لضرب المصالح الأميركية والإسرائيلية، ومن ثم مصالح دول ما يسمى بـ«محور الاعتدال».الأميركيون من جانبهم يسلطون الأضواء على الدولة «الدينية الفاشستية» في إيران، ويحذرون من ترك الفرصة لـ«متطرفي الحرس الثوري» لامتلاك القنبلة النووية، ومن ثم فرض إرادتهم وهيمنتهم على المنطقة، وتصدير الثورة الشيعية إلى دولها، بعد إشعال الاضطرابات الطائفية فيها، والقضاء على الاستقرار والأمن ومن بعده التنمية والازدهار.هكذا نُطحن جميعاً تحت تروس آلة الحرب الإعلامية الجهنمية، ونمشي منوَّمين مسلوبي الإرادة إلى حيث يريد دعاة الحرب في الجانبين أن نكون، ونقدم استقرارنا وسلامنا ووحدتنا الوطنية قرباناً على مذبح قوى التطرف والشر ومصالح الشركات النفطية الضخمة.دعونا نراجع ما يرد إلينا من حروب الإعلام وإعلام الحروب، ونحاول أن نستخلص من بين ركام الحقد والفتن حقائق ومعلومات موثقة، ربما نجد مخرجاً إلى حيث السلام، بعيداً عن العقول التي أدمنت الخراب، وكرّست نفسها للترويج له، والتبشير بقدومه.* كاتب مصري