لماذا اختفت النزعة الإنسانية من الفكر العربي- الإسلامي؟

نشر في 17-12-2008
آخر تحديث 17-12-2008 | 00:00
 د. شاكر النابلسي -1-

من ضمن الكتب التنويرية التي يستعرضها المترجم والمفكر السوري هاشم صالح المقيم في باريس، منذ مدة في كتابه «معضلة الأصولية الإسلامية»، كتاب «الإنسانية والإسلام» لمحمد أركون الفيلسوف الجزائري، ورئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة السوربون. وأركون بدأ مشروعه في إعادة قراءة التراث العربي- الإسلامي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ونشر هذه القراءات بالعربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية، ولغات أخرى عدة. وكانت نافذته إلى قراء العربية، المترجم المتميز والشارح لأفكاره وكتاباته هاشم صالح، الذي يشارك أركون في منهجه العلمي بإعادة قراءة التراث العربي- الإسلامي الديني، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي. وكان آخرها كتاب محمد أركون «الإنسانية والإسلام» الذي صدر عام 2005.

-2-

لقد كانت النزعة الإنسانية (التيار الإنساني والعقلاني) موجودة في الفكر العربي– الإسلامي، قبل وجودها في الفكر الأوروبي، في عصر النهضة في القرن الخامس والسادس عشر. والدليل، أن كبير المفكرين الإنسانيين في ايطاليا بيك الميراندولي الذي حظر البابا عام 1487 قراءة كتبه، أو اقتنائها، أو طباعتها، يقول: «قرأت في كُتب العرب، بأننا لا يمكن أن نجد على سطح الأرض كائناً أنبل، ولا أكثر روعة من الإنسان». وقد وُجدت هذه النزعة الإنسانية في الفكر العربي- الإسلامي من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر في الفكر العربي- الإسلامي، نتيجة لتفاعل الحضارة العربية- الإسلامية مع الحضارة الإغريقية، ولكنها اختفت عندما دخلنا في عصور وقف الاجتهاد، والتكرار، والاجترار، والتلقين، وموت الفلسفة، نتيجة لعوامل تاريخية ودينية واجتماعية عدة. وكان للفلسفة والفلاسفة أمثال الفارابي، وابن سينا، والتوحيدي، والجاحظ، وابن رشد، وابن باجه، (الأخيران جمعا بين الأدب والفلسفة، وجعلا من الفلسفة أدباً راقياً يقرأه الجميع) وغيرهم، أثرهم الكبير في النزعة الإنسانية في الفكر العربي- الإسلامي. وعندما اختفى ولُوحق مثل هؤلاء الفلاسفة وخيّم الظلام على الفكر، ارتدى الفكر العربي- الإسلامي ثوب البلادة، و«طاقية» الخمول و«التمبلة».

-3-

العقلانيون العرب المسلمون في الفترة الذهبية للعقلانية العربية (القرن 8-11م) كانوا أكثر منا- نحن الآن- عقلانية. فنحن الآن تجاه المد الأصولي المنغلق والمتخلف، نُلام عندما نستشهد بقول فيلسوف أو مفكر إغريقي أو غربي. ولقد اتهمت أنا شخصياً بالشيوعية والماركسية من قبل الأصوليين المتطرفين، وذلك من خلال ما قرأوه من كتاباتي التي تستشهد في بعض الأحيان بنتاج الفكر الإغريقي والغربي. في الوقت الذي لم أكن فيه يوماً لا شيوعياً ولا ماركسياً، ولا قومياً ولا اشتراكياً، ولا يسارياً ولا يمنياً، ولكني كنت أنا نفسي.

فالعقلانيون العرب القدامى، كانوا يمزجون بين الدين والفلسفة، وعلى رأس هؤلاء كان ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال»، في حين أن فقهاء زماننا يحاربون الفلسفة، ويمنعونها من مناهج المدارس والجامعات، ويتهمون المشتغلين فيها وبها بالزندقة والكفر. وفي الوقت الذي كان فيه أجدادنا من العلماء والفقهاء، يناقشون أعسر مشكلات الكون بعلم، ومعرفة، وحوار عقلاني متسامح، نجد أن فقهاء الدين والأصوليين في هذه الأيام، لا يقدرون على الوقوف أمام أصغر مفكر غربي للحوار العقلاني المتسامح.

-4-

يقول أركون إن النزعة الإنسانية في الفكر العربي- الإسلامي، التي ظهرت بين القرن الثامن والحادي عشر الميلادي، في بغداد وأصفهان والريّ وشيراز وقرطبة واشبيلية وبقية العواصم الإسلامية الأخرى، كانت مماثلة وشبيهة بالنزعة الإنسانية، التي ظهرت في أوروبا في عصر النهضة.

وأركون في كتابه يُفرّق بين تيارين في النزعة الإنسانية ظهرا في الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية. التيار الأول لاهوتي مرجعه الأول الكتب المقدسة. والتيار الثاني أخذ بالمركزية الإنسانية من خلال كتب أفلاطون، وأرسطو. ولكن كلا التيارين ظلا خاضعين في الشرق والغرب للمرجعية الدينية. فعصر النهضة- على عكس ما نتوهم تماماً- لم يقطع الصلة مع المسيحية، وظل خاضعاً لها، ولكن بشكل أقل من الماضي. ولم يستطع العقل الأوروبي الإفلات من الهيمنة المسيحية إلا في القرن الثامن عشر، عندما تبنت الثورة الفرنسية 1798 «شريعة حقوق الإنسان». أما نحن العرب، فقد تهنا في صحراء ممتدة، بعد عبد الرحمن بن خلدون (آخر مفكر كبير في تاريخنا) عام 1406م، ولم نخرج من هذه الصحراء، إلا بعد أن أخذ بأيدينا نهضويو القرن التاسع عشر، يتقدمهم رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومجموعة من المفكرين الليبراليين النهضويين الشوام كيعقوب صروف، وجورجي زيدان، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وغيرهم، الذين كانوا يقيمون في مصر في ذلك الوقت. وجاء حسن البنا في عام 1928 وأسس جماعة «الإخوان المسلمين» في الإسماعيلية، لكي يوقف الزحف النهضوي التنويري، الذي تابعه أحمد لطفي السيد، وإسماعيل مظهر، وإسماعيل أدهم، وعبد العزيز فهمي، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم، وحسن الزيات، ولويس عوض، وغيرهم.

-5-

كذلك تمَّ في النصف الثاني من القرن العشرين الحدث نفسه. فجاءت الجماعات الإسلاموية بعد أن أيقظها من سباتها الرئيس السادات في السبعينيات، وأطلق لها العنان في الإعلام والتعليم لتردَّ، وتشرّد، وتقتل الليبراليين النهضويين والتنويريين في مصر والعالم العربي. فتمَّ قتل فرج فودة، وتم إخراج نصر أبو حامد زيد من مصر، ومحاولة قتل نجيب محفوظ، وزُجَّ باليسار المصري في السجون. كذلك تم قتل حسين مروة ومهدي عامل في لبنان، وطُورد النهضويون الليبراليون في سورية والعراق وبلدان الخليج العربي. وكانت النهضة العربية قد أصيبت بذلك بالنكسة الثالثة.

فكانت النكسة الأولى للنهضة، بعد القرن الحادي عشر الميلادي، وتولّي مجموعة من الجهلة والمتخلفين، الذين أغلقوا باب الاجتهاد.

وكانت النكسة الثانية للنهضة، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وظهور جماعة «الإخوان المسلمين»، كرد على موجه الاستنهاض والتنوير، وتحولهم من جماعة دينية إلى جماعية دينية سياسية، وحثهم للملك فؤاد والملك فاروق على إلغاء الأحزاب السياسية، والقضاء على التعددية الحزبية، ومنع الاختلاط بين الذكور والإناث، في المدارس.

وكانت النكسة الثالثة للنهضة، في السبعينيات من القرن العشرين، بظهور الجماعات الإسلاموية و«الصحويين»، كرد على النهضويين التنويريين بدءاً بمصر، وانتهاء بكل بلدان العالم العربي.

وهذا الانتصار للجماعات الإسلاموية و«الصحويين» مرده عدم تكافؤ موازين القوى بين هؤلاء والنهضويين. فمازال التعليم التقليدي التحفيظي إلى جانب الجماعات الإسلاموية. كذلك فإن البطالة، والفقر، وقرون الانحطاط، التي استمرت ثمانية قرون (11-19)، لعبت دوراً مهماً في سيطرة السلطة الإسلاموية.

*كاتب أردني

back to top