آخر وطن: هو وهي!

نشر في 30-05-2008
آخر تحديث 30-05-2008 | 00:00
No Image Caption
 مسفر الدوسري كانت زوجة أحد رموز شعراء العامية المعاصرين الذي انتقل إلى رحمة الله، لا تعرف قيمته كشاعر، ومبدع، وفنان، ولا تدرك حتى مدى شفافيته وجماله كإنسان.

كانت هي زوجة عادية جدا، أحلامها تشبه أحلام أي زوجة أخرى، تصرفاتها تشبه تصرفات الزوجات اللاتي يسكنّ نفس الحي، والزوجات في الحي المجاور، والأخريات في الاحياء غير القريبة، وأي زوجة عادية أخرى في أي مكان آخر، مشاعرها تشبه مشاعر أي امرأة عادية أخرى، كانت هذه الزوجة على عكس زوجها تماما، زوجها لم يكن إنسانا عاديا، بل كان شاعرا، ولم يكن شاعرا عاديا، كان شاعرا مبدعا، متمردا، ذا قدرة خلاقة مبتكرة على مستوى الشعر العامي، أخرج الشعر العامي من عباءة التقليدية المستهلكة، إلى فضاءات النور ، ومواسم القرنفل، وفتح نوافذ المفردة، ورمى من خلالها شباكا لاصطياد الهواء النقي، وندى الصباحات المعبأة بالشذى، كانت أجمل هواياته واحبها إلى قلبه هي جمع النجوم المضيئة، وإشباعا لهوايته تلك كان ينصب كفيه «فخا» في كل مساء لتقع فيه النجوم، يجمع تلك النجوم، ويسهر طوال ليله ليبتكر لها أجنحة ملونة، وعيونا، وقلبا نابضا، ومع خيوط الصبح الأولى ونسائمه يقف أمام شباكه، يتأملها قليلا، كمن يتأكد من جودة صنيعه للمرة الأخيرة، ثم يطلقها إلى السماء مملوءة بالفرح.

لم يكن شاعرا عاديا، أما زوجته فكانت تلك المرأة المسكينة، المقهورة، التي تندب حظها التعيس كل يوم، وترفع كفيها دعاء لله أن ينقذها من هذه «الزيجة» التي أضاعت شبابها، وقلّصت سنوات عمرها، وجلبت لها الشيخوخة مبكرا، وجففت مآقيها من مخزون الدموع التي تسكبها كل ليلة على وسادتها.

هي تريد منه أن يساهم في استقرار البيت، ليستتب الأمن الأسري.

هو يريد أن يزلزل البيوت بيوت الشِّعِر ،ويساهم في ثورة ضد الأمن العاطفي.

هي تريد منه أن يحمل على عاتقة -كأي زوج آخر- مسؤولية تربية الأولاد.

هو آمن بأن مسؤوليته تمرد البنات، بنات أفكاره.

هي تريد منه أن يسير مع القطيع ليكون قدوة لأولاده، حتى لا يتعرضوا لسخط المجتمع، ورفضه لهم.

هو يريد أن يفرّ من السرب، ليحظى بصوته الخاص، ولينشد أغنيته الخاصة.

هي تطلب منه أن يأوي إلى فراشه في الساعة العاشرة كل مساء، لتنتظم دورة الحياة.

هو يريد أن يربك عقارب الساعة لتصبح الحياة أكثر دهشة.

هي تريد منه أن «يكون» مثل أبي فلان، زوجا مثاليا،لا يعرف من النساء سوى امرأته، ولا يعرف من الحياة سوى كرة القدم، وقضاء ساعة أو ساعتين عند أصدقائه كل مساء، للعب الورق، وتبادل الأحاديث المملة، ثم يعود إلى بيته محملا بأكياس الخبز وحزم الخس.. ورائحة النرجيلة.

هو يريد فقط أن.. يكون!

بل ويعتبر أن أبا فلان هذا ليس أكثر من زوج.. أحذية قديمة! تافه.. منافق.. سخيف.. وممل في أفضل الأحوال!

كرر لها مرارا أنها ستعرف قيمته فقط.. بعد وفاته؟

حاصرته بالأسئلة، والشجارات المستمرة، والاستجوابات، إلى أن قضى نحبه.. شهيدا.

أكبر أبنائه قال لي: إن والدته تعرفت عليه، وأحبته بصدق فقط من خلال ما عرفته عنه.. بعد وفاته!

back to top