في دعوتنا لتجديد الحياة السياسية طرحنا موضوع السماح بإنشاء أحزاب سياسية ديمقراطية مؤمنة إيمانا حقيقيا بالدستور لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هنالك عمل ديمقراطي سليم من دون وجود أحزاب سياسية. لماذا؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد أن نؤكد أن ما نعنيه بالأحزاب السياسية هي الأحزاب الديمقراطية الدستورية التي يكون الانتماء لها متاحا لكل أفراد المجتمع المؤمنين بتوجهاتها وبرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي بذلك على النقيض من التشكيلات القبلية والطائفية أو التنظيمات الدينية التي ينتمي لها الفرد بناء على عرقه أو طائفته أو دينه... لأن الأخيرة ليست أحزابا سياسية تطرح برامج عامة وليست ديمقراطية لأن تكوينها بالأساس غير ديمقراطي.نعود الآن إلى السؤال: لماذا؟والجواب هو لأنه من دون وجود الأحزاب لا نستطيع معرفة التوجهات العامة الحقيقية في المجتمع لأن الأحزاب الديمقراطية الدستورية تعبر عن مصالح فئات وطبقات المجتمع وتعكس آراءها بما فيها آراء الأقلية. ومن دون وجود الأحزاب الديمقراطية، فإن عملية الانتخاب والترشيح ستعتمد على اعتبارات غير سياسية يغلب عليها طابع العلاقات الشخصية وصلة القرابة والخدمات الفردية. يضاف إلى ذلك أنه من دون وجود أحزاب سياسية ديمقراطية لا يمكن ترشيد العمل السياسي حيث تقوم الأحزاب عادة، ومن أجل تحقيق برامجها، بتدريب أعضائها وتنمية قدراتهم وتثقيفهم سياسيا... لذا نجد أن من يرشحه الحزب للعمل العام لابد أن يكون قد مارس العمل السياسي وتدرج في مراحله كافة، وبذا تتوافر فيه صفات دنيا قيادية ومعرفة سياسية عامة بعكس ما نراه لدينا حاليا حيث إن هنالك أعضاءً في مجلسنا الموقر يفتقدون للمؤهلات الدنيا اللازمة لعضو البرلمان كما أن بعضهم لا يعرف ألف باء السياسة ويخلط بين مهام وواجبات العمل العام وأهدافه الخاصة، ولا يحسن فهم وتطبيق الدستور أو اللائحة الداخلية لمجلس الأمة. كما أن بعضهم أصبح فجأة شخصية عامة من دون أن يحمل أي مؤهل من مؤهلات الشخصية العامة مثل القدرة على مناقشة وجهة النظر المعارضة، وتقبل النقد، والعمل للمصلحة العامة، واحترام رأي الأقلية والدفاع عنه. والأمر ذاته ينطبق على بعض الوزراء، فنلاحظ أن بعضهم لا يفرق بين المنصب السياسي للوزير ومنصب الموظف الحكومي الكبير. من ناحية أخرى، فإن إشهار الأحزاب رسميا يجعل من السهل جدا معرفة مصادر تمويل الحزب وعدد أعضائه وأسمائهم ومناصبهم الحزبية، وبالتالي تسهل عملية الحكم على مدى مصداقية الحزب. كما أن وجود أحزاب سياسية ديمقراطية دستورية تطرح برامج عامة سيقضي شيئا فشيئا على التنظيمات التي تعتمد على الانتماءات القبلية والطائفية والعائلية لأنه لن يكون هنالك مجال لها للتشكل في الساحة السياسية باعتبارها غير دستورية وغير ديمقراطية ولا تطرح برامج سياسية، بل تعتمد في خطابها على الولاءات التقليدية مثل العرق والمذهب وصلات القربى. أما ما يطرحه معارضو فكرة الأحزاب من أن الأحزاب لم تنجح في البلدان العربية فهذا تعميم خاطئ يحمل وجهة نظر غير سليمة لأنه ليس هنالك أحزاب ديمقراطية دستورية في أغلب البلدان العربية، وإن وجدت فإنها تعمل ضمن أجواء عامة غير ديمقراطية مثل وجود قانون الطوارئ في مصر أو نظام المحاصصة الذي يقوم عليه النظام السياسي في لبنان.علاوة على أنه لو قبلنا بوجهة النظر هذه، فإنه سيتحتم علينا نسخ التجارب السياسية للبلدان العربية والعمل بها، وهذا مستحيل نظرا لتعارضها ولاختلاف الظروف البيئية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكل بلد من البلدان العربية، مما يعني فصل التجربة السياسية لكل بلد عن سياقها التاريخي والمجتمعي وعن المكان والزمان الذي ولدت ونمت وأثرت فيه إن سلبا أو إيجابا. ثم إن عمليتي القياس والمفاضلة تكونان دائما بما هو أكثر تطورا وليس بما هو أسوأ. لذا فمن المفترض القياس على تجارب البلدان الأوروبية وبلدان جنوب شرق آسيا ودول أميركا اللاتينية والصين وروسيا وألمانيا وفرنسا وتركيا والهند والولايات المتحدة الأميركية والكثير الكثير من دول العالم الحي. وبالمناسبة... فإن لدينا ومنذ زمن طويل تنظيمات سياسية شبه مشهرة يزور مقارها رئيس مجلس الأمة ورئيس مجلس الوزراء وبعض الوزراء، ولكن ليس لها حتى الآن وضع قانوني سليم وبعضها ليس ديمقراطيا ويتعارض تشكيلها ووجودها مع الدستور ولا نعرف شيئا عن طرق تمويلها أو نوعية أوعدد أعضائها. لهذا، ومن أجل إصلاح وتجديد وتطوير العمل السياسي الديمقراطي، فإن المطلوب الآن هو تقنين وضع هذه التنظيمات السياسية لكي تصبح تنظيمات ديمقراطية دستورية.نافذة: في المقال السابق ذكرت أن الرئيس الفرنسي أثناء الاحتلال كان جاك شيراك والصحيح هو فرانسوا ميتران... فمعذرة.
مقالات
الأحزاب والنظام الديمقراطي
12-11-2008