أصبح «مثقف الأزمة» اليوم أخطر وأعتى تأثيراً من «أزمة المثقفين»؛ فالفارق كبير بين أن تعيش طليعة إنسانية ووطنية مهمة أزمة حقيقية؛ فتعمل على تقصي أبعادها ومحاولة تجاوز آثارها، وبين أن تشكل الأزمة تلك الطليعة؛ لتحولها امتداداً لها، وتصبغها بملامحها، وتكسبها صفاتها، البعيدة كل البعد عن الوجه الأصيل النبيل للمثقف في أمتنا.

Ad

بات الحديث عن تراجع عام شامل في القطاعات كافة، وعلى الصعد كلها، مجرد تحصيل حاصل؛ وهو الأمر الذي كرّس استخدام عبارات بعينها وألفاظ عن «الفساد» و«التردي» و«السقوط» و«الأزمة»، باعتبارها المفردات اللائقة بوصف وضع اتفق الجميع على أنه «الأسوأ على الإطلاق» منذ بدأ تدوين الأحداث التي مرت بالأمة ووثقت أحوالها.

وفي هذا السياق برزت عبارات «التأزيم» المختلفة؛ بحيث يُتبع لفظ «أزمة» بأي «مضاف إليه» يمكن توقعه، فتستقيم اللغة ومعها المعنى والدلالة، من دون الحاجة إلى ذرائع أو تفسيرات؛ ومن ذلك الحديث عن «أزمة الضمير»، و«أزمة الأسعار»... والتعليم، والرياضة، والصحة، والمرور، وهكذا إلى ما لا نهاية تقريباً.

لكن «أزمة المثقفين» احتلت دوماً مكانة مرموقة في مسلسل التأزيم المعتاد؛ فالمثقفون ليسوا سوى كتلة الوعي الفاعلة في أي أمة، ومصادر قوتها الحقيقية، وطليعتها الإنسانية القادرة على تشخيص الوقائع، وكشف الخلل، واجتراح الحلول، وطرح المبادرات، وصولاً إلى التغيير الإيجابي المطلوب.

وكان مثقفونا، كالمأمول دائماً، شجعاناً إلى درجة كبيرة، تعكس نضوجهم الفكري والإنساني من ناحية، وتجانسهم مع «حال الرفض العام» من ناحية أخرى؛ إذ أفردوا المساحات الكبيرة للحديث عن أزمتهم الخاصة والعامة في آن، معددين أبعادها، وموضحين آثارها وتداعياتها عليهم وعلى المجتمع والدولة.

وفي ذلك قالوا إن ثلاثة أضلاع تُحكم حصاراً حول المثقف، مجسدة أزمته؛ أولها الاستبداد السياسي، وهم في ذلك محقون كل الحق؛ إذ يبقيهم رهن المطاردة والملاحقة وتحت سيوف العقاب والترصد، وثانيها المؤسسة الدينية التقليدية ذات الفهم الضيق الحرفي والمخالب الممتدة المفتئتة على سلطات الدولة المدنية وحقوق الإنسان، وثالثها الرأي العام غير المستنير، مجسداً «سلطة العوام» العصية على أي تحدٍّ، والممتنعة عن أي تطويع أو اختراق، والمصطدمة، بالضرورة، مع إشراقات الإبداع في تخطيها لـ«الثابت»، وتحديها لـ«المتفق عليه».

وفي خضم الحديث المتواتر والمتكرر والمتحلي بالشجاعة ونكران الذات والقسوة في نقدها أحياناً، فات الكثيرين أن الأزمة أنتجت أيضاً مثقفيها؛ وأن جيلاً كاملاً ظل على مدى عقود عدة يعيش تلك الأزمة، وتعيشه، وإن عزّ عليه التأثير فيها أو تغيير معطياتها، فلا شك أنها وجدت الفرص والوقت وعوامل التأثير اللازمة كلها سانحة لتشكيل «مثقف الأزمة» وتحديد سماته وآليات عمله وشروط إنتاجه.

ويمكن القول إن «مثقف الأزمة» اليوم بات كياناً واضح المعالم، مكتمل البناء، بشروط ومواصفات وأنماط أداء محددة.

فقد أورثه الاستبداد السياسي، ومعه التسلط المستمد قوته من التفسير الخاطئ للدين و«سلطة العوام»، خوفاً تقليدياً يمكن تفهمه، خصوصاً وقد تعرض مثقفون حقيقيون من خيرة صناع ثقافتنا ومبدعيها لهجمات شرسة مريرة، استهدفت حياتهم، أو أودعتهم السجون، أو ألجأتهم إلى المنافي، أو فرقتهم عن زوجاتهم، وحطت من شأنهم بين العوام.

وبات قطاع من «مثقفي الأزمة»، إلى ذلك، مأخذوين بالتطور الاقتصادي المادي في نزعاته الاستهلاكية، التي شهدت حدوداً قياسية من السفه والجنون أحياناً، فلجؤوا إلى توظيف، أرصدتهم العلمية والثقافية لزيادة نفوذهم الاجتماعي، وتعظيم مردودهم الاقتصادي، أو تحسين أوضاعهم السياسية، فانتهوا إلى عكس كل ما بدؤوا به، وبعدما كانوا مضرباً للمثل في العلم والخلق والوطنية أحياناً، صاروا جديرين بالاحتقار، الذي ما لبث أن عزّ عليهم حصده، فلم يبق لهم سوى الشفقة، ومن بعدها الرثاء.

وعف آخرون فقبضوا على مواقفهم تجاه السلطات الثلاث، بعضها أو معظمها، وراحوا يمولون بقاءهم من مصادر أخرى، بعضها ليس فوق مستوى الشبهات، وفي الأحوال كلها حافظ معظم «مثقفي الأزمة» على خطاب دائري عقيم، ولغة تسفيهية، وجدل أجوف، مستخدمين مصطلحات العمالة والتخوين، وعازفين عن أي فعل إيجابي يمكن أن يطرح بديلاً لائقاً لتبنيه والبناء عليه.

وبالإضافة إلى تلك الاعتوارات كلها، بات مثقف الأزمة متمترساً في أيديولوجيته، طالباً من نظرائه الاصطفاف خلف تياره، وإعلان هوياتهم لا إعلان مبادئهم.

يعاملك «مثقف الأزمة» كتابع مفترض ذليل، ويفترض فيك الانضمام إليه والحديث برأيه وربما استخدام تعبيراته، وهو جاهز باتهامك بـ«البيع» أو «الانتهازية» أو «العمالة» وفي أفضل الأحوال بـ«الاستلاب» و«السفه» إن أنت لم تتفق مع طروحاته وأفكاره.

لقد تجلت أزمة المثقفين العرب بوضوح خلال العدوان الإسرائيلي الهمجي الأخير على غزة، فكرست حالة «مثقف الأزمة»، الذي اصطف أيديولوجياً، واتخذ مساراً مبدئياً، لم تغيره تتابعات الأحداث أو انكشاف الحقائق أو تدفق المعلومات، فظل «محتكراً وحيداً للحقيقة»، و«نبياً وطنياً نبيلاً في مواجهة عملاء وخونة».

«مثقف الأزمة» مأزوم حقيقي، لا يعول على أحد إلا ذاته، ولا يثق بأي كائن خارجها، يطرح يأساً وتفسيرات مجترة لوقائع يختارها مآساوية ومغلقة، فيما توقف عن إبداع الحلول وطرح البدائل وتخيل السيناريوهات، وكف عن احترام العمل الجماعي والإيمان بنظرائه وقدرتهم على القيام بأدوارهم المفترضة وإنتاج الأفكار والرؤى المعتبرة حتى في حال تصادمت مع تحليلاته أو معتقداته ومواقفه.

أصبح «مثقف الأزمة» اليوم أخطر وأعتى تأثيراً من «أزمة المثقفين»؛ فالفارق كبير بين أن تعيش طليعة إنسانية ووطنية مهمة أزمة حقيقية؛ فتعمل على تقصي أبعادها ومحاولة تجاوز آثارها، وبين أن تشكل الأزمة تلك الطليعة؛ لتحولها امتداداً لها، وتصبغها بملامحها، وتكسبها صفاتها، البعيدة كل البعد عن الوجه الأصيل النبيل للمثقف في أمتنا.

* كاتب مصري