لا بد لنا جميعا أن نعترف أن هناك مشكلات قد يؤدي تفاقمها وتراكمها إلى تقويض التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، أو النيل منه، وتعويق مسيرة الاندماج والانصهار الوطني، وذلك ابتداء من سلوكيات بعض المسؤولين الأمنيين وموظفي الجهاز البيروقراطي، وانتهاء بمن لا يفهمون غايات الدين ومقاصده، أو يسحبونه إلى المجال السياسي، من بين الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، التي تنتج خطابا، يحض بعضه على كراهية المسيحيين، ويقلل بعضه من حقوقهم الوطنية، أو من قبل مسيحيين متطرفين، ينادون بخروج المسلمين جميعا من مصر.
وزاد من وطأة المشكلة في السنوات الأخيرة تزايد الوزن النسبي للعامل الخارجي في الضغط على «الوحدة الوطنية» المصرية، فموقع الدين في الصراعات الدولية تقدم بشكل مذهل ومؤسف، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي أدارها اليمين المسيحي في الولايات المتحدة على أساس تصور «صراع الحضارات» أكثر من الدفاع عن المصلحة القومية للولايات المتحدة. وانعكس هذا، بشكل غير مباشر، على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر.فبعض المسلمين لم يفرق بين ساسة الغرب الذين يدينون بالمسيحية ومسيحيي الشرق عامة، الذين يرى كثير من قادتهم أن ما تفعله الدول الغربية حيال العالم الإسلامي وغيره لا يمت بأي صلة إلى المسيحية نفسها. وعلى الجانب الآخر أبدى مسيحيون مصريون غبطة لضرب أفغانستان وغزو العراق، واعتبروا أن هذا بداية لقيام الولايات المتحدة بمناصرة الأقليات المسيحية في العالم الإسلامي. ورغم قلة هؤلاء في الجانبين، فإن استمرار وطأة الدين على إدارة الصراعات الدولية وازديادها يوما تلو الآخر، يزيد من هؤلاء عددا، ويعمق رؤيتهم الخاطئة المتبادلة. والعامل الثاني هو ظهور جماعة «أقباط المهجر»، بأجندة تحمل مطالب مسيحيي مصر، وتسعى إلى طرحها في المحافل الدولية، وتبالغ في الوقت نفسه في تصوير ما يجري في وسائل الإعلام المتاحة، مستغلة ثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، فربطت بينهم وبين مسيحيي الداخل، خاصة الشباب. ورغم أن كثيرين من المسيحيين المصريين لديهم تحفظات عديدة على أفكار ومسلك «أقباط المهجر» فإن العوام من المسلمين لا يعرفون هذا الأمر بشكل كاف، بل يعتقدون أن «أقباط المهجر» تنظيم قوي وكبير وفعال، ويسعى إلى استعداء الغرب على مصر. ولم تبذل النخبة المثقفة من المسيحيين المصريين، ممن يوجهون انتقادات إلى أقباط المهجر، جهدا إعلاميا وفكريا كافيا، يقنع عوام المسلمين وقطاعات من نخبتهم أن المسيحيين المصريين ليسوا كتلة واحدة، ولن يكونوا بفعل عوامل عديدة، لا حصر لها.لكن هذين العاملين اللذين يؤثران سلبا في التعايش في مصر، ليس بوسعهما، حتى الآن، أن يشكلا تحديا كبيرا، لأن العوامل التي تعزز التعايش، أو تحافظ على استمراره لا تزال قوية. ويمكن ذكر هذه العوامل على النحو التالي:-1 التجانس العرقي: فالمصريون من أشد شعوب العالم تجانسا في الصفات العرقية والمقاسات الجسمية، ومن أكثرهم تشابها في السحنة والملامح. ويمتد هذا التجانس من «البيولوجيا» إلى «السيكولوجيا» ليعزز التقارب النفسي بينهم. ويعبر الأنبا شنودة نفسه عن هذا الوضع بجلاء حين يقول: «وحدة مصر والمصريين من أسرار هذا البلد الخالد... هل هي الجغرافيا؟ هل هو الإنسان؟! ...كم أصابنا من البلايا على مدى التاريخ، ولكن وحدتنا بقيت تقاوم الزمن. فلا خوف على مصر، ولا تشابه بينها وبين غيرها. ولم تنجح القوى الأجنبية قط في التفرقة بين المصريين، فمصر تحمي وحدتها، لأنها وحدة محصنة ضد مصائب الجهل والفقر والتخلف والمخططات الأجنبية».-2 هبة الجغرافيا: فالمسيحيون ينتشرون في كل قرى ومدن مصر تقريبا، ولا يقطنون منطقة جغرافية محددة، كما هي الحال بالنسبة للأكراد في كل من العراق وسورية وتركيا وإيران. وهذا الأمر يجعل علاقات الوجه للوجه قائمة يوميا بين مسلمي مصر ومسيحييها، ويزيد من تشابك المصالح المتبادلة، ولا يجعل فكرة الانفصال قائمة أبدا، أو لها أي معنى، ومن ثم استقر في وعي الجماعة الوطنية برمتها أنه لا مناص من العيش المشترك، ونشأت حاجة ماسة إلى تحسين مستوى هذا العيش.كما أن الجغرافيا أتاحت فرصة كبيرة للدولة المركزية في السيطرة على الشعب، منذ فجر التاريخ. فالمصريون يعيشون في واد ضيق منبسط، يسهل ضبطه من الناحية الأمنية، ومن يتمرد على الوادي ويخرج إلى الصحراء يعرض نفسه لهلاك محقق. وهذا الأمر جعل بوسع النظم المتعاقبة على حكم مصر أن تخمد أي محاولة للفتنة في مهدها، وبات مستقرا في وعي الناس أن السلطة موجودة دوما، ويتصرفون في علاقاتهم اليومية على هذا الأساس.-3 التشرب الحضاري: فمصر الحاضر تتشرب كل طبقات الثقافات التي تراكمت عليها، هاضمة ما أتاها من الخارج، محتفظة في الوقت نفسه بكثير من أصالتها الأولى، لتبدو كما يقول الفرنسي إدوارد لين وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء. وإذا كانت مصر الراهنة عربية الهوية والحضارة، فإن كثيرا من المثقفين المسيحيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «مسيحيون دينيا، لكنهم مسلمون ثقافة وحضارة»، وزاد من هذا التصور أن كثيرا من منظري «القومية العربية» الأوائل كانوا من المسيحيين، وهم إن انتقدوا «الخلافة الإسلامية» كنظام سياسي، فإنهم لم يستطيعوا أن يتجاوزا الإسلام كدين وحضارة لتلك البقعة الجغرافية من العالم.-4 وحدة الموروث الشعبي: فالفلكلور المصري واحد، لا يفرق بين مسلم ومسيحي. فعادات الأفراح والأحزان متشابهة، وطقوس الموالد واحدة، والجميع يتفاعلون مع الأساطير الشعبية بالدرجة نفسها. -5 علاقات السوق: فالمصالح التجارية الحياتية بين المسلمين والمِسيحيين في مصر تفرض على الجانبين تعايشا مستمرا. فالأفراد في خاتمة المطاف ينحازون إلى مصالحهم الشخصية، وقد يبتعدون عن الهموم العامة إن وجدوها تؤثر سلبا في أرزاقهم، أو على الأقل يفصلون بين واجباتهم حيال المشكلة الكبرى ومقتضيات مصالحهم الفردية. وفي القرون الفائتة استعان حكام مصر بمسيحيين في الإدارة والتجارة والري، نظرا لخبرتهم في هذه النواحي، وتماهى هؤلاء في نظام الدولة ودافعوا عنه. وفي الوقت الحالي يستعين المسلمون بأهل الحرفة من المسيحيين، ويسعى المسيحيون من أصحاب التجارة إلى كسب ود المسلمين لأغلبيتهم العددية، التي تجعلهم القوة الشرائية الأساسية في البلاد. -6 الخوف من عواقب الفتنة: فهذا الخوف يشكل كابحا للطرفين من أن يتماديا في تصعيد أي خلاف طارئ ينشب بينهما، لأن استشراء الفتنة، يعني إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات، لا أحد بوسعه أن يعرف حجمها. وبالطبع فإن هذه العناصر قابلة للتكرار في أي بلد، وعلى المختلفين مذهبيا أو عرقيا أن يبحثوا فيها عن القواسم المشتركة، بدلا من الفرقة والفتنة والانزلاق إلى الفوضى غير الخلاقة.* كاتب وباحث مصري
مقالات
نموذج مصري في فرص التعايش
20-05-2008