في شأن الأخلاق الموضوعية لمقاومة الطائفية
الطائفية ليست الابن الشرعي للدولة القطرية، بل هي ثمرة إضعاف الدولة في بلداننا. بالعكس، إن الاهتمام ببناء وطنية سورية وعراقية ولبنانية متمركزة حول الدولة... هو إسهام أساسي في التغلب على نزعات الانقسام الطائفية.تناولت مقالتي في «الجريدة» قبل ثلاثة أسابيع (12/2/2009) الأخلاقيات الذاتية لمقاومة الطائفية، أخلاقيات مقاومي الطائفية الأفراد، وأبرزتْ الحاجة إلى كل من فحص الضمير الذاتي والقدرة على تقمص الآخرين عند مقاومي الطائفية المفترضين، أما هذه المقالة فتهتم بالأخلاقيات الموضوعية لمقاومة الطائفية، أي القيم العامة التي ربما تضمن أكثر من غيرها تراجع تحديد الطائفية لسلوك الأفراد والجماعات، وأولهم الفاعلون العامون، في مجالي السياسة والثقافة بخاصة. إن مقاومة الأفراد للطائفية وتحررهم منها أمر حيوي، لكن الفضائل الفردية لا تكفي لمعالجة مشكلات لا تكف الشروط العامة عن تغذيتها، فلا بد من إصلاح هذه الشروط العامة ذاتها.
والأساس هنا هو الوطنية منظوراً إليها في آن كرابطة عليا بين السكان وكفضيلة عامة، تنتظر من «المواطن» أن يكون مهتما بالشأن العام، متجردا من الأنانية والولاءات الصغرى، وتضمن له فرصا وحقوقا مساوية لفرص وحقوق غيره من المواطنين، وتشركه إيجابيا في الحياة العامة لوطنه. ومن حيث المبدأ تحيل الوطنية التي نعنيها هنا إلى دولنا القائمة، لا إلى «الأمة العربية» ولا إلى «الأمة الإسلامية». إذ يبدو أن التركيز على «الأمتين» هاتين مقترن مع إنعاش الروابط الدينية والطائفية في بلداننا، لا مع إضعافها، فكل ما يضعف الدولة، ولو من فوقها، يمنح قوة نسبية لما تحت الدولة من عشائر وطوائف. الفكرة الإسلامية تضعف الدولة من جهة أنها تطلب ولاء لكائن افتراضي هو «الأمة الإسلامية» وتحجبه عن «الدول القطرية» القائمة، ومن جهة أخرى لأن الإسلامية إما سنية وإما شيعية، أي أنها ليست مبرأة هي ذاتها من البلاء الطائفي. أما الفكرة العربية فتشارك نظيرتها الإسلامية منافسة الدولة على ولاء السكان، وهي أشد منها إنكارا على العموم لشرعية هذه الدول، ما ينعكس مرة أخرى إضعافا لولاء السكان لها. وتتوحد الفكرتان في إضعاف مناعة الجمهور الموزع بين ولاءين مجردين لا يرفدان حركة اجتماعية سياسية ناهضة، وبين أطر سياسية واقعية لا تعتبر جديرة بالولاء، وتاليا في تسهيل أمر انعقاد ولاء السكان على أطرهم الاجتماعية الأهلية الضيقة، الطائفية خصوصا. على أن شرط إضعاف الدولة ينطبق أكثر على أي سيطرات خارجية، كالاحتلال الأميركي للعراق، وكنفوذ قوى ومحاور متعددة في لبنان، ففيما عدا أن مشاريع السيطرة الخارجية تعمل بوعي على تغذية الانقسامات الاجتماعية في البلدان التي تسيطر عليها، وفق مبدأ «فرق تسد» الاستعماري المعروف، فإن لاستتباع الدول أو تدميرها، على نحو ما فعل الأميركيون في العراق، مفعول توهين الرابطة الوطنية العامة (غير المتينة أصلا في بلداننا)، الأمر الذي تستفيد منه فورا الروابط الأهلية. والكلام على إضعاف الدولة ينطبق أيضاً على الاستبدادية العربية التي تتميز بحلول السلطة محل الدولة، أو الاستئثار الخاص بالحكم عبر توسل الأدوات القمعية محل العمل على بناء الأمة وتعهد الاندماج الوطني. هنا أيضا المناخ ملائم لازدهار الطائفية، إن بسبب عدم اضطلاع الجهة المؤهلة أكثر من غيرها بالوظيفة الدمجية (نخبة السلطة)، أو حتى لأنها قد تكون «طليعية» في تغذية الطائفية عبر الاستناد تفضيليا إلى أهل ثقتها لحفظ سلطانها وإدامته، وأهل الثقة هم الأسرة والعشيرة والطائفة، «الأهل». يتعين الإلحاح على هذه النقطة من أجل إبراز التمييز بين تقوية الدول المرغوبة وما يسمى عادة «تغوّل السلطة» المرفوض (ولهذا وجهان، تغول ضد الدولة قلما يُرى، وتغول ضد المجتمع هو ما يجري التركيز عليه عادة). وتقوية الدولة، معنويا وقانونيا وسياسيا، وماديا بالطبع، هو ما من شأنه أن يكون علاجا فعالا لمشكلات الطائفية، فيما من شأن تغول السلطة بالعكس أن يكون محرضا لنمو هذه المشكلات وتفجرها. والسؤال المهم في هذا السياق هو: هل الدول العربية القائمة هي أطر اجتماع سياسي وإنساني نهائية، ويمكن التوظيف المادي والمعنوي فيها لبناء أمم مواطنين؟ أليس من صلة بين الطائفية وضعف الاندماج الاجتماعي في أكثرها، وبين كونها أصلا دول هشة كيانيا قد لا تكون مؤهلة لمستويات من الدمج تفوق ما تعرضه حاليا؟ وتاليا، ربما يقتضي التخلص من الطائفية التخلص من هذه الدول، بعضها أو كلها؟ لا نرى هذا الرأي. الدول الحالية هشة وركيكة من وجوه عديدة، لكنها رغم ذلك مكسب مهم يمكن إصلاحه والبناء عليه من أجل مستويات أرفع من التفاعل والوحدة بين سكانها، كما من أجل درجات أعلى من التفاعل والتكامل بين الدول العربية. وبدلاً من النظرة القومية التقليدية التي تصدر عن تصور محصلة صفرية بين «الدول القطرية» و«الأمة الواحدة»، نفضل التفكير في ضرب من تقسيم العمل، تكون الدول القائمة بموجبه أطرا حصرية للمواطنة، أي للمساواة السياسية والحقوقية، فيما تكون الرابطة العربية إطارا للتماهي الثقافي، وربما التعاون الاقتصادي والاستراتيجي. الخطأ كل الخطأ هو في وضع هذه ضد تلك أو تلك ضد هذه.أما تصور الرابطة العربية كدولة واحدة لجمهور غير متشكل، «فراطة» من البشر دون أي تعيينات جهوية أو ذاكرات خاصة أو هويات فرعية متفاوتة الرسوخ التاريخي، فهو وصفة للتفكك والفوضى لا للتوحد والنهوض. الدول الراهنة أطر تُشكَّل وانتظام لجمهور عربي حديث العهد بالسياسة والدولة نسبيا، وهي قابلة للتطوير عموما، أما إضعافها ونزع شرعيتها فلا يخدم أي قضية، هو فقط رجعة إلى الوراء، مرساها هو العشائر والطوائف.الطائفية ليست الابن الشرعي للدولة القطرية، بل هي ثمرة إضعاف الدولة في بلداننا. بالعكس، إن الاهتمام ببناء وطنية سورية وعراقية ولبنانية متمركزة حول الدولة... هو إسهام أساسي في التغلب على نزعات الانقسام الطائفية، دون أن يقطع الطريق بالضرورة على أشكال تعاون وتفاعل عربي أو إقليمي أوسع. * كاتب سوري