اللعب

نشر في 20-06-2008
آخر تحديث 20-06-2008 | 00:00
 محمد سليمان هناك كاتب يكتب لكي يغير العالم، وآخر لكي يعيد اكتشاف ذاته وعالمه، وثالث لكي يقاوم القبح والقهر والتخلف، وهناك أيضا كاتب يكتب لكي يلعب، فاللعب متعة ينشدها الصغير والكبير والمبدع وغير المبدع، وقد كان الشاعر الفرنسي «رامبو» يقول: «اللعب هوالغرض من ذلك كله».

وفي أدبنا وشعرنا القديم والحديث تبرز أحيانا علاقة اللعب بالكتب والكتابة، فأبو تمام قرن الجد والصدق بالسيف، وربط اللعب بالكتب، عندما قال:

السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحدّ بين الجد واللعب

وقد ارتبط اللعب دائما بمغامرة التجريب والبحث عن الجديد والمختلف، فالشاعر والقاص أو الروائي عندما يتمرد على ثوابت فنه وأطره الجمالية يجد نفسه عادة في الفراغ بلا أطر أوضوابط تعينه على تنظيم وتشكيل تجربته، ومن ثم يجد نفسه مضطرا -لكي تظل الكتابة فنا- إلى التجريب واللعب بكل أدواته ومهاراته وموهبته لابتداع ضوابط جديدة تناسبه وتدفعه إلى إبداع فن أرقى وألصق بتجربته.

قبل عقود كانوا يتحدثون في الغرب عن موت الرواية بسبب جمودها وانصراف القراء عنها، لكن ظهور اللاعبين الكبار من كتاب أميركا اللاتينية بدّل مصير الرواية، ودفع بها إلى مركز الصدارة، وبتيار الواقعية السحرية إلى أنحاء العالم، وهو تيار يعتمد تماما على اللعب الفني القائم على مزج الخيالي بالواقعي والمعقول باللامعقول والعصري بالبدائي والأسطوري والغرائبي.

والكاتب الأرجنتيني الشهير «خوليو كورتاثر» يحدثنا عن أهمية اللعب قائلا: «الحيلة جزء شديد الأهمية في الأدب وبالنسبة لي أدب من دون ألعاب أو حِيَل هو أدب ممل» ولكورتاثر الكثير من الروايات والمجموعات القصصية، من أشهرها روايته «لعبة الحجلة» التي ترجمت وصدرت عن المشروع القومي للترجمة، وله أيضا «نهاية اللعبة» وهي مجموعة قصصية ترجمتها مها عبدالرؤوف، وصدرت عن دار أخبار اليوم -قطاع الثقافة، وجاء في مقدمتها «لم يكن أدب كورتاثر مملا بأي شكل من الأشكال، فالحيلة واللعبة والمفاجأة هي أهم محاوره، وإذا أردنا أن نعرف أعماله بكلمة واحدة فستكون بلا شك: اللعبة»... في قصصه ورواياته يتلاعب الكاتب بكل شيء... الشكل... التقنية... المضمون... وكل عناصر القص الأخرى التي ظنها غيره من الثوابت الفنية، كما يتلاعب أيضا بشخصياته فهو لا يمنحها ملامح إيجابية تجعلها قادرة على الفعل والمواجهة، بل يقصر دورها على الانتظار ورد الفعل أحيانا والاحتماء بالصمت والفرار.«المنزل المحتل» هي إحدى قصص مجموعته «نهاية اللعبة» التي تذكرني دائما بالمأساة الفلسطينية، وقد نشرت هذه القصة في مجلة أدبية كان يرأس تحريرها «خورخي لويس بورخيس»الذي قال «أشعر بالفخر لأنني أول من نشر لكورتاثر»، تبدو القصة بسيطة للغاية ومغلفة بشيء من الغموض... والكاتب على لسان بطله يفتتح القصة قائلا: «كنا نحب ذلك المنزل، فهو بالإضافة إلى اتساعه وقدمه -في عصر تدك فيه المنازل القديمة طمعا في مكوناتها الثمينة- كان يحفظ ذكريات أجدادنا وآبائنا وكل ذكريات الطفولة، وكنا قد اعتدنا إريني وأنا أن نعيش فيه وحيدين، وهو ما كان يعد ضربا من الجنون»... بطلا الرواية هما الراوي وشقيقته... أعزبان، وعلى أعتاب الأربعين، وعاطلان يعيشان على إيراد حقل ورثاه ويسعيان فقط لإبقاء ذلك المنزل الهادئ والغامض نظيفا... ويتحدثان بين الحين والآخر عن الآخرين أبناء العم الطامعين في المنزل والساعين للاستيلاء عليه.

بغموض يثير الأسئلة يقدم لنا البطل نفسه قائلا: «ما يهمني الحديث عنه حقا هو المنزل، وإريني لأنني شخصيا ليس لي أي أهمية» والشقيقة كما يقول فتاة ولدت كي لا تضايق أحدا، وكي تقضي اليوم في أشغال الإبرة على أريكة حجرية... الحدث الوحيد في القصة هو الاستيلاء الغامض على المنزل الذي يتم على مرحلتين «كنت أعد كوبا من الشاي عندما سمعت صوتا في غرفة الطعام أو المكتبة... كان الصوت غير واضح ومكتوما كصوت وقوع كرسي على السجادة أو صوت مخنوق لمحادثة هامسة، فعرفت أنهم استولوا على الجزء الداخلي من المنزل» وتكرر الحدث نفسه بعد فترة عندما سمع البطلان ضجيجا مكتوما يصدر من مطبخهم لكي تقول البطلة: «لقد استولوا على هذا الجزء» ولكي ينهي الراوي القصة قائلا: «وخرجنا إلى الشارع بما كان علينا من ملابس»، ولكي يبدأ القارئ لعبة التأويل وطرح الأسئلة عن ذلك المنزل القديم والكبير، وعن المهاجمين الغامضين وعن بطلي القصة المنتميين إلى الماضي والمنفصلين تماما عن الحاضر وحركته والعاجزين عن الانغماس في الحياة والدفاع عن التراث والذاكرة... وهذه الأسئلة هي في الواقع لعبة «كورتاثر» الذي على ما أظن أراد أن يخرج القارئ من سلبيته وأن يدفعه إلى المشاركة في عملية الإبداع.

* كاتب وشاعر مصري

back to top