جنبلاط: الابن سرّ أبيه 1- 2
بداية، كنت أتمنى لو أن السيد حسن نصر الله أجّل خطابه الذي ألقاه الأسبوع الماضي بمناسبة مرور 8 سنوات على تحرير جزء كبير من أرض الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. فالسيد يعرف أكثر من غيره أن «التوقيت» عنصر مهم من عناصر النجاح أو الفشل، واختيار زمان ومكان الخطاب لم يكن في محله. والسبب بسيط وواضح، وهو أن لبنان كان يخطو خطوته الأولى نحو بلسمة جراح أحداث مايو الدموية. والخطاب، بجزء من مضمونه، وبلهجته التي قاربت درجة العنف القصوى، أعطت صورة مغايرة، كي لا أقول سلبية، مما دفع خصومه إلى التقاط الإشارات السلبية والتركيز عليها. وبذلك يكون السيد حسن قد منح الخصوم فرصة مجانية ونادرة للتركيز على السلبيات التي كانت أقوى، من حيث اللهجة والمضمون، من الإيجابيات الكثيرة.في خطابه المذكور كرر أمين عام «حزب الله» مرتين، وربما ثلاث مرات، أنه لا يريد الآن أن يفتح ملف أحداث مايو الدموية. لكنه، وفي الوقت نفسه، ذكر بتردد واضح، وبنوع من الخجل، أن عدد قتلى الحزب في المعارك التي دارت في بيروت الغربية والشويفات والباروك، بلغ 14 قتيلاً فقط لا غير. وكان بذلك يرد على الأوركسترا الإعلامية لقوى 14 آذار، وبالذات حزب وليد جنبلاط الذي ملأ الدنيا بأخبار انتصاراته، وبعدد قتلى «حزب الله» المبالغ بها إلى درجة تفوق التصور، في معركة لم تدُم أكثر من ساعات معدودات. ما حقيقة هذه المعركة بشقيها السياسي والعسكري؟ وما مسبباتها ونتائجها؟
هناك روايات كثيرة تناقلتها الألسن، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو مبالغ به، ومنها ما لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. والكتابة في هذا الموضوع ليس هدفه رش الملح على الجراح المفتوحة، بل رغبة في إعطاء صورة شبه متكاملة لما حدث، بغية تفادي حصول مثل هذه التجربة المرّة مستقبلاً، وبالتالي لتثبيت شعار: وداعاً أيها السلاح في لبنان.لنبدأ بالشق السياسي؛ بعد اكتشاف علم الجينات، وعلاقته الثابتة في تحديد أصول الوراثة، بات بالإمكان فهم بعض تصرفات وليد جنبلاط وليس كلها. ففي بداية الخمسينيات قاد والده كمال المعارضة ضد تجديد الولاية لرئيس الجمهورية الأولى بعد الاستقلال الشيخ بشارة الخوري. وكان من أركان هذه المعارضة الرئيس الأسبق كميل شمعون. نجحت المعارضة في دفع الرئيس الشيخ إلى الاستقالة بعد فترة قصيرة من بدء ولايته الثانية، حيث قال جملته التاريخية التي نسيها أو تناساها معظم السياسيين اللبنانيين: إن نقطة دم لبناني واحدة تساوي عندي كل الرئاسات في العالم. وانتخب كميل شمعون رئيساً ضدّ منافسه فرنجيه تحت شعار أطلقه كمال جنبلاط في حينه: «إن شمعون هو فتى العروبة الأغر». وأثبتت الأحداث في ما بعد عكس هذا الشعار في الأصل وفي المضمون فكانت أحداث العام 1958 التي يعتبرها المؤرخون المحايدون الرصاصة الأولى في حرب أهلية طويلة لانزال نعاني انعكاساتها إلى اليوم.وفي احتفال النصر على بشارة الخوري الذي أقيم في عاصمة الرؤساء والزعامات دير القمر في الشوف وقف كمال بك خطيباً فقال بعنجهية المنتصر: قلنا لذلك العهد زلْ فزال. وقلنا لهذا العهد (وأشار بأصبعه حيث كان يجلس الرئيس شمعون) كنْ فكان. فما كان من شمعون المعروف بصراحته إلا أن ترك الاحتفال غاضباً معلناً حرب كميل وكمال التي لم تنته آثارها إلى الآن بعد أن توارث الأبناء الخصومة السياسية الحادة عن الآباء.أروي تلك الحادثة التاريخية لأخلص إلى القول إن عقدتي السيطرة وصناعة الملوك والرؤساء متأصلة ومتوارثة عند آل جنبلاط منذ بداية القرن العشرين، وربما أبعد من ذلك. وهذا ما أثبته علم الجينات في عصر النهضة العلمية الهائل. ولأن الابن سر أبيه، فإن وليد بك سار –ولايزال– على نفس الدرب. وإذا كان هناك من اختلاف بين الشخصيتين، فإن الأبرز هو قدرة الابن على التكيّف مع الوضع السياسي السيئ الذي يجد نفسه فيه. وذلك أنه يؤمن بالنظرية القائلة إن من لا يعرف كيف يخسر لا يعرف كيف يربح مجدداً. بينما ميزة الوالد التي عُرف بها عناده على الاستمرار بالخطأ وعدم الاعتراف به. بمعنى أوضح فإن شخصية وليد تشبه إلى حد بعيد شجرة نخيل باسقة تنحني أمام العواصف كي لا تـُقـْتـَلعْ من جذورها، بينما شخصية الوالد تشبه صخر لبنان الذي لا تؤثر به العواصف أو الزلازل.انطلاقاً من هذا «التشريح» النفسي، فإن ما حدث قبيل أحداث بيروت والشوف الدامية لا يثير الاستغراب لدى الذين يعرفون زعيم المختارة. ففي بداية هذا العام، طرق وليد جنبلاط أبوابا عدة لإعادة المياه إلى مجاريها بينه وبين سورية بعد أن أدرك بحسِّه السياسي المرهف أن المشروع الأميركي للبنان في طريقه إلى الفشل. وكان آخر باب طرقه هو باب الرئيس العراقي الكردي جلال الطالباني الذي تربطه بوالده وبه أيضاً علاقات قديمة ثابتة. وظهرت بوادر نجاح وساطة الطالباني مع دمشق حين أوقف جنبلاط حملته على سورية وراح يغازل أنصارها اللبنانيين من بعيد. وهنا تظهر الحلقة التي مازالت مفقودة إلى الآن عندما ألقى جنبلاط بقنبلته الصوتية المدوية شارحاً للعالم خطورة جهاز الاتصالات التابع لـ«حزب الله» ومطالباً بالوقت نفسه بإقالة مدير أمن المطار ذي الميول والصلات المعروفة بالمقاومة وبقيادة المعارضة. واستلم السنيورة هذه الكرة النارية وحوّلها إلى القرارين المشؤومين اللذين كانا بمنزلة الطلقة الأولى في أحداث بيروت والجبل الدامية. فلماذا أقدم جنبلاط على فعلته هذه بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى «سربه» القديم؟ تلك هي الحلقة المفقودة. لكن المهم النتائج الميدانية والسياسية التي أعقبت ذلك. تراجعت الحكومة عن قراريها تحت ضغط اجتياح المعارضة للجزء السنّي من بيروت الغربية، وحسمت موضوع الميليشيات الحريرية ميدانياً في أقل من 24 ساعة. ووضع جنبلاط نفسه قيد الإقامة الجبرية في قبو منزله في شارع كليمنصو المتفرع من منطقة شارع الحمراء. وفي الوقت الذي ألقى سعد الحريري السلاح دون أن يستسلم، وقعت حادثة خطف ثلاثة من الشيعة الأعضاء في «حزب الله» في عاليه حيث تمت تصفيتهم ذبحاً وطعناً بالسكاكين. ووجد «حزب الله» نفسه مضطراً إلى الردّ ولكن ليس على مستوى الفعل، فأصدر بياناً عنيفاً حمّل فيه جنبلاط شخصياً هذه «المذبحة». ثم أصدر الحزب وحلفاؤه أمر البدء بتنفيذ عملية السيطرة على الجبل التي كانت موضوعة مسبقاً. ووجد جنبلاط نفسه في خضم بركان بدأ ينفجر ومالت «شجرة النخيل» الجنبلاطية لرياح الإعصار، لكنها لم تمنع الأحداث الدموية على الأرض التي بدأت في الشويفات. فقد اتصل جنبلاط من مركز «إقامته الجبرية» بمشايخ الدروز أولا حيث لمس رغبة شبه إجماعية باستنكار ما حدث، وبرفض الاشتراك في تعقيدات الوضع الميدانية، وبتحميل جنبلاط مسؤولية الاقتتال الدرزي-الدرزي في حال حدوثه، وبضرورة السيطرة على الوضع قبل أن ينفجر ويأكل الأخضر واليابس في الجبل ومن ثمّ لبنان كله. ونتيجة لتخلي مشايخ الدروز الذين هم في الواقع يملكون سلطة قرار السلم والحرب، وليس جنبلاط أو غيره، رفع زعيم المختارة راية السلام لا الاستسلام عبر عدوه التاريخي الأمير طلال أرسلان الذي نصحه بضرورة الاتصال برئيس المجلس نبيه بري لاستخدام نفوذه مع «حزب الله» لوقف التداعيات. ولأن مصلحة الطائفة -أي طائفة لبنانية- تأتي في الدرجة الأولى، ولأن الأمير طلال شأنه شأن أي فرد من أبناء الطائفة الدرزية يرى أن الاقتتال بين أبناء طائفته خط أحمر كبير، لذلك لم يكتف بالاتصالات المحلية، بل تعدى ذلك إلى الاتصال بدمشق التي سارعت بدورها إلى استخدام نفوذها لدى «حزب الله» لاعتبارات تتعلق بحسابات درزية سورية دقيقة وحساسة. وتمّ تطويق أزمة تداعيات «مذبحة عاليه» ورُسِمَتْ أدوار كل فريق بشكل تتناغم مع سيمفونية السلام. وبدأ سباق الساعات والدقائق والثواني بين تثبيت «الهدنة» في الجبل، ومحاولات شريرة لزيادة النيران اشتعالاً ولهيباً. وحدث ما كان يتوقعه ويخشاه سعاة الخير وأنصار السلام وجرت أول مواجهة دموية في الشويفات. وكما يقال، وقف كل فريق على سلاحه واستنفر الجميع. ما حدث عسكرياً في الميدان هو كلام سنأتي على ذكر تفاصيله في الجزء الثاني من هذا المقال. لكن اللافت للنظر أن وليد بك رجع إلى عادته القديمة إثر رجوعه من مؤتمر الدوحة فلم يتمكن من الانحناء للعاصفة طويلاً. ويبدو أن الجينات الطـَبْعيّة تغلبت على حالة التطبّع المؤقتة حيث قال في أوساطه الخاصة والعامة بلهجة الاعتزاز والفخر: صحيح أنا الذي بدأ الحرب (أحداث مايو) وأنا الذي أوقفتها. ولولا مواقفي لما خرجت الدوحة منتصرة. * كاتب لبناني