يرفض البعض فكرة الأحزاب السياسية، ويردد الكثير منذ سنوات طويلة أن الوقت لم يحن بعد لاشهار الأحزاب متناسين حقيقة أنه لا ديمقراطية حقيقية دون تعددية حزبية ومبدأ تداول السلطة... فبغيابها يصعب تحقيق أي تطور سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. والأحزاب السياسية كما يقول لورد برايس «هي التي تنظم وتبلور الإرادة العامة الفوضوية»، إذ توفِّق بين الفرد والمجتمع من خلال قانون ينظم عملها على أسس وطنية.

Ad

والأحزاب هي الوسيلة التي تعمل على إعداد واختيار القادة السياسيين من أجل تعزيز الديمقراطية وتطورها، وتشجع على مبدأ المنافسة الذي يجعل الساحة السياسية في حالة حراك دائم وتعزز من قيم الشفافية وتسهل عمل الحكومة من خلال التعاون مع الأغلبية من أجل تحقيق خططها المستقبلية. كما تعمل الأحزاب على نشر الوعي والتعليم السياسي، حيث يصوِّت الناخب لأفكار وبرامج وليس لاعتبارات شخصية أو عائلية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية. لذا فالحل لإصلاح ديمقراطيتنا الناقصة يكمن في المزيد من الديمقراطية وتعزيز ركائزها الأساسية ودعاماتها.

وقد تم تشويه فكرة الأحزاب في مجتمعنا بسبب التجارب الحزبية الفاشلة التي ولدت من رحم الأنظمة القمعية والدكتاتورية كالأحزاب الإسلاموية والقومية والماركسية في دول العالم الثالث التي فشلت فشلاً ذريعاً في بلورة برامج إصلاحية وتنموية. فتلك الأحزاب لا تؤمن بالديمقراطية الليبرالية، وهنا لا نعني حزبا أو تيارا ليبراليا معينا ولكن الفلسفة اللييرالية كمظله للعمل الديمقراطي الحقيقي التي تؤمن بحرية الفرد والمساواة أمام القانون، والتعددية الحزبية ومنع طغيان الأغلبية.

فقد ناهضت الأحزاب الدينية سواء الجماعات السلفية أو حركة «الإخوان المسلمين» (الحركة الدستورية فرع الكويت) الديمقراطية الليبرالية، حيث اعتبرت بعض الجماعات الاسلامية المتشددة منذ نشأتها أن الديمقراطية هرطقة وكفر، كما سعت جماعة «الإخوان المسلمين» التي تأسست في مصر عام 1927 إلى تقييد حرية التعبير عن الرأي وحرية المعتقد... وقد كانت تلك الأحزاب الاسلاموية والقومية والاستبدادية تعتمد على حزب القائد وتقديس الرموز وغابت عنها ثقافة الديمقراطية وتجديد الدماء ومفهوم مأسسة الحزب الذي يعتمد على البرامج الواضحة والرؤية الاستراتيجية.

إن ما نتحدث عنه اليوم هو مفهوم يختلف تماماً عن تلك الأحزاب الإقصائية التي لا تؤمن إلا برأيها ولا تعمل إلا لتضييق الخناق على الآخرين، ولكن ما نعنيه هو تطبيق نظام الأحزاب الذي يعتمد على معايير حداثية تعمل بها الدول المتقدمة، وهي تنظيمات مؤسسية تضم فئات المجتمع المختلفة وبعيدة كل البعد عن تقديس الأفراد، وتقوم على الانتخابات، وتعمل على صياغة برنامج تنموي يعمل على ترجمة أهدافه بشكل واقعي ومنظم.

ولا يمكن هنا أن ندعي بأن قانون الأحزاب هو العصا السحرية لحل كل المشاكل ولكنها ضرورة قصوى لاكتمال الديمقراطية المنشودة... فقد تظهر أحزاب إيديولوجية ومتطرفة وغوغائية تستخدم الديمقراطية وتأتي عبر الأحزاب من أجل هدم جوهر الديمقراطية، ولكن هذا يعتمد على توعية الأحزاب للناخبين من خلال الحوار والإقناع، ومن خلال محاسبة ومكافأة الحزب حسب أدائه وتشريعه للقوانين التي تخدم الفرد والمجتمع على حد السواء.

أما ما يحدث عندنا من فوضى ومراهقة سياسية، يعود بنا إلى ممارسات القرن التاسع عشر حين كانت التجمعات السياسية البدائية تعتمد على الاعتبارات الشخصية والمصالح الأحادية. فمفهوم الأحزاب الوطنية الحالي الذي تطور في المجتمعات المتقدمة يختلف اختلافاً جذرياً عما كان عليه قبل القرن التاسع عشر حيث أصبح للأحزاب السياسية دور حيوي، فهي القدم التي يعتمد عليها المجتمع للتحرك والدفع بالتنمية والتقدم إلى الأمام.

أما هلامية وضعف تكتلاتنا السياسية غير المنظمة، فهي سبب ما نعانيه من جمود وشلل... فالأحزاب تأتي ببرامج سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة تعمل على الدفع بإقرارها، بدلاً من الخمسين برنامجاً التي يأتي بها الخمسون نائباً، وهم بذلك يبيعون الوهم لناخبيهم وقت الانتخابات بينما يدركون استحالة الوفاء بمعظم ما وعدوا به بسبب فوضى العمل السياسي.

إن غياب قانون لتنظيم الأحزاب السياسية أدى إلى خلق ديمقراطية شكلية وإلى معارضة صوتية مزيفة لا تملك قوة حقيقية... بل عزز غيابها من التكتلات الطائفية والمذهبية والقبلية التي لا ترى أي بديل حقيقي لها... فالأحزاب هي عمود الديمقراطية حيث لا تكتمل إلا بها ومن خلالها... فلنضع ديمقراطيتنا البدائية في متحف القرن التاسع عشر، ولنبدأ بديمقراطية ما بعد الحداثة.