هناك من يرى في القراءة عملية تبادلية بين المؤلف والقارئ، وأن الكتاب/المادة الإبداعية، يمثل جسر التواصل بينهما، فالقارئ حين يتوجه إلى كتاب بعينه، إنما يكون مدفوعاً الى التعرف على عالم الكاتب/المؤلف بالدرجة الأولى، وعالم مادته الإبداعية بالدرجة الثانية. لذا فإن أي كاتب يصبح مع انتشار كتبه، كأي ماركة تجارية مسجلة، لها مستهلكيها الذين يسعون إليها، وهم يفضلونها عما سواها. من هنا تنعقد علاقة خاصة بين الكاتب والقارئ، ويكون اللقاء المتجدد بينهما بمنزلة التقاء وعي بوعي آخر. أو بصيغة أخرى، فإنه يمكن النظر إلى القراءة كلحظة استسلام قارئ لبوح مؤلف.

Ad

يُعد الروائي «بول أوستر- Paul Auster»، المولود عام 1947 في نيوجيرسي، أحد أشهر الروائيين الأميركيين في القرن العشرين، وربما كان السبب وراء شهرته هو قدرته الفائقة على كتابة الرواية بتداخل الواقعي مع الفنتازي مع البوليسي، مختلطاً بحضوره الشخصي وأحداث حياته الخاصة، وبما يعطي أعماله مذاقاً ونكهة لافتين، ويجعل من كتاباته نموذجاً دالاً على التطور الفني الذي وصل إليه فن الرواية الحديثة، بوصفه الجنس الأدبي الأكثر حضوراً على مائدة القراءة لدى مختلف شرائح وفئات الجمهور، في شتى بقاع الأرض.

يقول بول أوستر في صدر موقعه الإلكتروني الأساسي «The Definitive Website»: «لم تعد الكتابة بالنسبة إلي فعل حرية، بل هي فعل بقاء». وفي جانب من سيرته الشخصية يذكر: «أن تكون كاتباً ليس اختياراً لمستقبل وظيفي كأن تكون طبيباً أو شرطياً، أنت لا تختار بمقدار ما يقع الاختيار عليك. ولحظة توافق على حقيقة أنك لا تصلح لأي شيء آخر غير الكتابة، لحظتها عليك أن تستعد للسير على طريق طويل وصعب لبقية أيام حياتك».

رواية «ليلة التنبؤ- Oracle Night»، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، ضمن سلسلة إبداعات عالمية، العدد 370، بترجمة وتقديم محمد هاشم عبدالسلام، ومراجعة محمود عضبان رزوقي، تقدم باقتدار ساحر تقنية كتابة الرواية داخل الرواية. المؤلف بول أوستر، ومن خلال سياق الرواية، يضع بين يدي القارئ الخيوط الرئيسية لفن كتابة الرواية، فهو يكشف أسرار خلق الكاتب لأبطال عمله مستعيناً بشخوص الواقع الذي يحيا، وهو إذ يختار شخوصه، فإنما يحملها رؤاه وقناعاته، ويخلق لها حياتها الخاصة. ثم يتداخل الفن مع الحياة، لحظة يضع بول أوستر على ألسنة أبطاله المتخيلين اللاحقيقيين كلاماً حقيقياً، خبره هو أو قرأه أو سمعه، كما يزج بهم للعيش في أماكن حقيقية، وبما يلغي المسافة الفاصلة بين أحداث الحياة الحقيقية، وأحداث حياة الرواية كفن قائم بذاته.

إن ما يجعل من أعمال أوستر حدثاً ثقافياً عالمياً، ليس فقط موهبته الفنية الفذة في كتابة الرواية الحديثة، وليس كونه أصبح ممثلاً لتيار ما بعد الحداثة في الرواية، بل قدرته اللافتة على جعل ما هو إنساني خالص يتشكل بوصفه فناً، وكذلك تسليط الضوء على تعقيدات الحياة الإنسانية الراهنة والعلاقات الزوجية، في المجتمعات الاستهلاكية، لتكون مادة فنية قابلة للتأمل والفهم. وهو في سعيه الدائم الى كتابة أعمال فنية تضج بالحياة، لا يكفّ عن استخدام مختلف أشكال وأساليب الكتابة الروائية في العمل الواحد، ليؤكد مقولة: إن الرواية فن يقدم للإنسان استراحة ذهنية مسلية، وسط يوم بات مليئاً بالمتاعب والركض.