لاتزال الأزمة السياسة التي تعصف بالبلاد منذ نهاية الشهر الماضي تراوح مكانها، فقد اشتبكت وترابطت ثم انحلت لتعود بعدها إلى التعقد إثر انسحاب الحكومة من جلسة أمس، بعد تثبيت مناقشة استجواب رئيس مجلس الوزراء على جدول أعمال البرلمان، لتقدم بعد ذلك استقالتها، وسط استغراب جميع المراقبين لحجم التخبط الذي بلغته أعلى سلطة إدارية في البلاد.

Ad

في البداية، هناك عِبَر كثيرة يجب أن تؤخذ مما جرى طوال الشهر الجاري، أولها أن الحكومة لم تكن على مستوى الحدث، فكانت أكبر الغائبين عن المشهد السياسي، بل افتقدناها لدرجة التساؤل عن الوزراء ومواقفهم، لنجدها لاحقاً تكلف بعض النواب بالحديث نيابة عنها وتسويق تصوراتها، فتشارك على استحياء في المشهد من خلال مصادر مسؤولة لم تفصح عن نفسها، ثم تلبد الأجواء ببالونات اختبار اكتظت بها السماء طوال الأسبوع الحالي، لتسدل بعدها الستار على انسحاب من جلسة أمس.

الحكومة فتحت الباب على مصراعيه للتسويات السياسية، متجاهلة أن تقديم التنازلات يرفع عليها سقف المطالبات، وهو ما حدث بعد تيقن النواب من أن التهديد باستجواب رئيس الحكومة يؤدي إلى الحصول على مكاسب أكثر، مستفيدين من الناحيتين، تلبية قائمة مطالبهم من جهة، وارتفاع شعبيتهم أكثر لدى الشارع الذي يريد رفع سقف المساءلة السياسية لاقتناعه بأن الحكومة تتحمل وزر التدهور الذي تعانيه البلاد.

الأمر الآخر، أن الحكومة الحالية ووفقا لهذا النهج، كرست «كشف التسلل» كعرف جديد في التعاطي السياسي مع الأزمات، ورأيناها تنسحب من موقع الدفاع إلى المواجهة، لتعود ثانية إلى المنتصف، فتترك مناصريها مكشوفين أمام الحكم والجمهور، ورأينا أن أكبر الخاسرين أمس هم من نادوا بضرورة إيجاد مخارج «مبتدعة» على العمل السياسي، ومنها التوقيع على عريضة «إعطاء الأمان» أو الدعوة لتأجيل مناقشة الاستجواب لمدة سنة، أو حتى من تطوعوا للدفاع عن الحكومة التي انسحبت من الجلسة، وتركتهم وحيدين في مواجهة الفريق الخصم.

أما الملاحظة المهمة التي يجدر الوقوف أمامها طويلا، فهي أن الحديث طوال الأسبوعين الماضيين لم ينفك عن البحث على مخارج دستورية ولائحية، وإن كان بعضها مستحدثا، والآخر مرفوضا، وهو ما أكد أن اللعبة السياسية لاتزال تحت السيطرة، وقواعدها معروفة للجميع، وأبرزها أن قانونها هو الدستور، مما أعطى ثقة مضافة لهذه الوثيقة التي فيها وجدنا الحل والعلاج لجميع المشكلات، كما أنها المنجاة لنا جميعا عند كل منعطف خطير.

الحكومة حينما دخلت جلسة أمس لم تكن قد حسمت أمرها، ما إذا كانت ستبقى أو ترحل أو تقود الأمور ناحية الحل الدستوري، أو تمهد الأجواء بمزيد من التأزيم لتدفع البلد إلى هاوية الحل غير الدستوري.

ودخلت الحكومة الجلسة بنية الانسحاب، ثم جاء الأمر للوزراء بالخروج دون تنسيق، فرأينا وزير المالية وحيداً في مواجهة النواب بعد أن رحل زملاؤه دون إبلاغه، ناهيك عن الوزراء الذين وقفوا طويلاً خارج المجلس بانتظار سيارتهم، فيما غادر الآخرون لا يعلمون إلى أين؟

الشاهد من هذا كله، أن الحكومة حينما تخبطت أمس، أربكت الجو العام، وأحرجت نفسها ووزراءها، وكشفت «ظهور» مناصريها، ورفعت على نفسها سقف المطالب، وأعطت ظهرها للمجلس بنوابه بعد أن تعاملت معهم بشكل غير لائق، وهو ما سيكون له تداعياته وآثاره في الفترة المقبلة، لتثبت أن من تشبث بموقفه المبدئي حتى إن اختلفنا أو اتفقنا معه، كان هو الفائز الأكبر، لأنه على الأقل لم يخن مبادئه ويطوعها على هوى الحكومة، فضمِنَ بقاءه منسجماً مع نفسه، في عالم مليء بالمتغيرات والبدع.