الأخلاقوية و الحضاروية والسياسة (1-2)
أستميح القارئ العذر لاستخدام تعبيرين غير مألوفين... لا أفعل ذلك متنطعا أو متفاصحا، فالتعبيران مشروعان لغويا: فالأخلاقوية مصدر صناعي منسوب إلى الأخلاقية، وهذه (الأخلاقية) مصدر صناعي منسوب إلى الأخلاق؛ والحضاروية مثلها مصدر صناعي منسوب إلى الحضارية المنسوبة بدورها إلى الحضارة... ولهذه الصيغة الاشتقاقية غير المألوفة دلالة عامة تحيل إلى المذهب الاجتماعي أو السياسي المنسوب إلى الحضارة أو الأخلاق أو غيرهما، تمييزا عن النسبة الوصفية العادية إليهما. قد نصف سلوكا بأنه أخلاقي، بيد أن تحويل الصفة هذه إلى مذهب أو بناء مذهب حول السلوك الأخلاقي هو ما يصح وصفه بالأخلاقوية. وغالبا ما تأخذ صيغة الاشتقاق هذه شحنة تبخيسية بسبب نفور الذائقة النقدية من النزعات المذهبية بعامة، وما تتضمنه من نزوع قسري ومصطنع إلى النسقية والانغلاق الفكري. وأعني بالأخلاقوية في هذا السياق المخصوص شرح السياسة بلغة الأخلاق، أي اصطناع لغة ونبرة أخلاقية في الكلام على شؤون مستقلة عن المجال الأخلاقي... عادة نشرح النزاعات السياسية بلغة يسار ويمين، أو ديمقراطية واستبداد... إلخ. هذه لغات سياسية، تشرح الحدث السياسي بمعجم يناسبه مبدئيا، تتفاوت الشروح التي تقدم، وقد يكون بعضها بمنزلة مفارقة تاريخية، كأن نشرح الأوضاع السياسية السورية اليوم بلغة الصراع بين التقدم والاشتراكية والتخلف والرأسمالية... هذا شرح مذهبي (قد نسميه «اشتراكوياّ»، على قبح هذا الاشتقاق)، لا يدر فائضا معرفيا ذا قيمة، لكنه يشرح السياسة بلغة مناسبة مبدئيا، أما إذا شرحنا السياسة بلغة الأخلاق، فتكلمنا على صراع بين الخير والشر، أو بين الصالحين والأوغاد، أو بلغة دينية ليكون بين الشيطان والرحمن، أو بين «فسطاط الإسلام» و«فسطاط صليبي يهودي» (على نحو ما قد يشرح الشيخ أسامة بن لادن)، فإننا لا نقع في مفارق تاريخية، بل في مفارقة بنيوية بالأحرى، أي نخرج كليا عن نطاق الشرح الصالح للمسألة المعنية.
هذا ينطبق على «محور الشر» الخاص بالإدارة الأميركية الآفلة، وعلى «الشيطان الأكبر» الخاص بالحكومة الإيرانية، وعلى ميل عربي سابق إلى رد إسرائيل إلى اليهودية، واليهود إلى مرابين وأنجاس وحثالات شريرة. لكن النقطة المهمة التي نسوقها هنا أن الأخلاقوية تنزع بصورة متسقة إلى تعريف الخصم بلغة ثقافية أو حضارية، لا بلغة السياسة والمصالح والإيديولوجيات وموازين القوى، وكذلك بلغة المطلق والصراع الوجودي الممتنع على التسويات، لا بلغة النسبية والصراع السياسي القابل للتسويات والحلول الوسط. لقد وُلِدت نظرية «صراع الحضارات» لصموئيل هنتنغتون في مطلع تسعينيات القرن العشرين، وأضحت أقرب شيء إلى إيديولوجية عضوية للسياسة الأميركية في «الشرق الأوسط الموسع» على الأقل في عهد جورج دبليو بوش بعد 11سبتمبر. ومعلوم أن سياسة هذه الإدارة انتحلت قناعا أخلاقويا فاقع الألوان، وأخذ الرئيس الأميركي يتكلم عن محور الشر وعن الصراع بين الخير والشر، هذا حين لم يكن يتكلم بلغة الدين وإلهام المسيح له. وعلى هذا النحو وفرت حضاروية هنتنغتون عمقا نظريا مناسبا لأخلاقوية بوش. قبل ذلك كان الرئيس رونالد ريغان أخذ يتكلم عن إمبراطورية الشر السوفييتية، واتسمت سياسته بالفعل بنزوع نحو أبلسة السوفييت، وإلى إخراج الشيوعية من كونها إيديولوجية ونظاما سياسيين إلى جعلها جوهرا شريرا فاسداً يتعين التغلب عليه ومحوه. والواقع أن في التيار المهيمن من الثقافة الأميركية ميلاً قديماً إلى أبلسة الاتحاد السوفييتي والخصوم جميعا، وإلى رسم صورة الصراع معهم بألوان أخلاقية (منابعها في الطهرانية البروتستانتية على الأرجح)، الأمر الذي اقترن عموما برفض التفاوض والتسويات السياسية والحلول الوسط، أو قد يرتد التفاوض الممكن في مثل هذه الحالة (كان ريغان يتفاوض فعلا مع الاتحاد السوفييتي) إلى بعده الإجرائي الشكلي، دون أن يتضمن قبولا جوهريا بالطرف الآخر كند ومساو وشريك محتمل. ومثل ذلك كان ينطبق على الاتحاد السوفييتي في علاقته مع الغرب والأميركيين بخاصة، فقد كان يعتبرهم إمبرياليين أشرارا وأعداء للإنسانية، ما يحكم على كل تفاوض معهم بأن يكون مؤقتا وإجرائيا، مجرد هدنة في صراع «تناحري» مديد، رهانه النهائي محق الخصم تماماً، والاقتران بين الأخلاقوية ورفض التفاوض ينطبق أيضا على موقف العرب من إسرائيل حتى حرب عام 1973، لكنه ينطبق أكثر على رفض إسرائيل التفاوض الحقيقي مع العرب، وإن كنا نجد هنا بدل أخلاقوية الخير والشر شيئا شبيها بها: لغة التفوق الحضاري وشعور بالغلبة الأخلاقية قائم على احتكار الاضطهاد، أو على تفوق ما تعرض له اليهود من اضطهاد على أي اضطهاد عرفه التاريخ الإنساني، ومعلوم أن الثقافة السياسية الإسرائيلية تعتبر كل تهديد أمني لإسرائيل خطراً وجودياً يتهددها، ما يستوجب محق مصدر التهديد المفترض... وهذا هو منبع «الاستخدام المفرط للقوة» الذي يتواتر أن تحصر جهات دولية نقدها لإسرائيل فيه. * كاتب سوري