هل كان «مسيو ليون» الفرنسي الذي رعى «محمد علي» في يفاعته مجرد تاجر دخان في «قولة»؟ الأرجح أن هذا «المعلم الأول» كان دوره أهم بكثير في حياة «باني مصر الحديثة»؛ لهذا فإن «محمد علي» وبعد أن «استتبت قدماه في حكم مصر» وبدأ ينفذ مشروعه الأوسع لـ»بناء دولة حديثة» بحث ـ فورا ـ عن «مسيو ليون»، وعندما عرف أنه غادر «قولة» إلى مسقط رأسه في «مرسيليا»، كتب إليه في العام 1820 يدعوه إلى مصر كي «يقضي فيها زمنا في ضيافته» كما يقول «جورجي زيدان»، ورد «ليون» على الدعوة بالإيجاب، لكنه مات قبل أن يلبيها، و»إلياس الأيوبي» يذكر أنه مات «في نفس اليوم الذي كان عينه لسفره». وأن «محمد علي» لم يكتف بالحزن الشديد الذي أبداه على معلمه، لكنه أرسل إلى شقيقته خطاب تعزية، ومعه «هدية ثمينة فاخرة إظهارا لاعترافه بجميل أخيها عليه»، هدية يؤكد «جورجي زيدان» أنها «تساوي عشرة آلاف فرنك»، لتطوى بذلك صفحة «مسيو ليون» الذي حاولت تسليط الضوء عليه اعتقادا بأنه لم يكن مجرد «اسم عابر» في حياة «محمد علي»، صحيح أنه لا توجد شواهد تشير إلى دور مباشر له في صياغة سياسة وتقاليد مؤسس «الأسرة العلوية» التي حكمت مصر قرنا ونصف القرن، لكن من قال إن «الأثر المباشر» هو «الأثر الوحيد»؟ لقد ظلت ثقة «محمد علي» في الفرنسيين ثابتة لا تتزعزع حتى في أحرج اللحظات، ولا شك في أن وفاءه لليون كان له الفضل الأكبر في هذه الثقة، التي بلغت حد أن «محمد علي» لم يزد على «العتاب الرقيق» لفرنسا، عندما بلغه تآمرها مع إنكلترا لتحطيم أسطوله في «نوارين»، عتاب يصفه «إلياس الأيوبي» قائلا: «يروى عن محمد علي أنه لما بلغه النبأ المزعج، نبأ تحطيم عمارته، قال بشخوص نظر ملؤه الأسف العميق: إني لا أدري كيف صوب الفرنساويون مدافعهم على أنفسهم، إيماء إلى ما كان يربط إمارة مصر بفرنسا من روابط الوداد المتين، وإلى أن المصالح الفرنساوية والمصالح المصرية في البحر الأبيض المتوسط كانت واحدة».

Ad

والأكثر من ذلك هو قول «محمد علي»: «إنني مدين بجيشي لسليمان بك وبحريتي لمسيو سيريزي، بل إنني مدين للفرنسيين بأكثر ما عملته في مصر». وسليمان بك المشار إليه هو المعروف بسليمان باشا الفرنساوي، الذي أطلق اسمه على أحد شوارع القاهرة، وهو ضابط فرنسي قاتل مع نابليون في معركة «الطرف الأغر»، ثم جاء إلى مصر، متحولا إلى الإسلام، وتولى في العام 1820 تكوين الجيش النظامي المصري. كان ينادى بـ»الكولونيل سيف»، وهو أيضا الجد الأكبر للملكة «نازلي» والدة الملك «فاروق» آخر ملوك مصر من الأسرة العلوية، والتي ماتت في العام 1978 بعد أن اعتنقت ديانة «الروم الكاثوليك»، ودفنت في مقبرة «الصليب المقدس» بالولايات المتحدة الأميركية، فكأنها ـ بحياتها ومماتها ـ ترسم الخط الواصل بين بداية التأثر، ونهاية التأثير.

كذلك فإن «محمد علي» أوكل تدريب جيشه لعدد من الضباط المشاركين في الحملة الفرنسية على مصر، لأنهم على دراية بأحوال وادي النيل. وتولى معارفه الفرنسيون إعادة إنشاء معمل البارود الذي أسسه من قبل كيميائيي الحملة الفرنسية، كما أسس بإشرافهم ترسانة للأسلحة بالقلعة. وفي حروبه في «نجد» استعان «محمد علي» بالضابط الفرنسي «فاسيير».

هذا عن المجال العسكري، أما عن استعانة «محمد علي» بالفرنسيين في إصلاحاته المدنية فحدث ولا حرج، وحسبنا أن نشير إلى أن «كلوت بك» الفرنسي الأصل كان صاحب اقتراح تأسيس مدرسة للطب، أنشئت أولا في «أبو زعبل» ثم نقلت إلى «قصر العيني» اعتبارا من العام 1837. وكان «كلوت بك» أول من أدخل التطعيم ضد الجدري إلى مصر، كما عهد إليه «محمد علي» بتنظيم المدارس.

لا شك إذا في مدى تأثير «المسيو ليون» في نفس «محمد علي»، الذي اتجهت بعثاته الدراسية إلى فرنسا، ومنها بعثة العام 1844، المعروفة بـ»بعثة الأنجال»، لأنها ضمت بين صفوفها اثنين من أبناء «محمد علي» واثنين من أحفاده، هما: «إسماعيل» الخديو فيما بعد، وشقيقه الأكبر «أحمد رفعت»، وكانت هذه البعثة تحت إشراف وزير الحربية الفرنسي شخصيا.

وفي هذا كله يمكننا أن نرصد الأثر الشخصي لـ «مسيو ليون»، ثم أثره كجزء من بيئة «قولة» عموما، في رسم مسيرة «محمد علي»، الذي جاء إلى «حاضرة الشرق» مصر بحلم واحد هو تحويلها إلى «قطعة من الغرب»، وهو حلم لا يمكن أن نغفل أثر النشأة الأولى في تكوينه. هذا على المستوى السياسي العام، كذلك فإن التفاصيل الاجتماعية والجوانب الفكرية أيضا، تشهد بتأثير مجتمع «قولة» ـ الكوزموبوليتان ـ في صياغة وجدان «محمد علي»، خاصة فيما يخص «الحريات الدينية» التي جاء «محمد علي» مشبعا منها بمفهوم أوسع مقارنة بما وجده في مصر، حتى أن عوام المصريين أطلقوا عليه «باشا النصارى» لتطبيقه منهجا يعتمد المساواة بين أبناء الأديان المختلفة، ولكثرة من اعتمد عليهم من المسيحيين في وظائف الدولة. ولنبدأ منهم بـ»باسليوس غالي‏ أبو طاقية» الذي تم تعيينه مديرا‏ ‏لحسابات‏ ‏الحكومة‏, و»باسيليوس» هو ابن «المعلم غالي» أحد أهم الشخصيات القبطية التي اعتمد عليها «محمد علي»، ويبدو أنه كان شخصا بارعا بالفعل وجديرا بالثقة أيضا، لدرجة أن الباشا تجاوز ماضيه، ولم يمنعه أن «المعلم غالي» كان يعمل كاتبا لدى عدوه اللدود «محمد بك الألفي» عن إسناد واحد من أكبر مناصب الدولة إليه، حيث أصبح كبيرا للمباشرين، أي كبيرا لجباة الضرائب، ومشرفا على تحصيلها، والطريف أن أحد أحفاد المعلم غالي ما زال يلعب الدور نفسه فى جباية الضرائب حتى الآن وهو وزير المالية الحالي د . يوسف بطرس غالي.

ولتسهيل مهمة المباشرين قسم «محمد علي» مصر إلى مديريات وأقسام، وقسم أرضها الزراعية إلى أحواض، كما أنشأ مصلحة المساحة. وظل «المعلم غالي» في منصبه لسنوات طويلة، حتى أطلق عليه «إبراهيم باشا» نجل «محمد علي» الأكبر الرصاص، في مايو (آيار) 1822 في بلدة «زفتى»، نتيجة امتناعه عن تنفيذ بعض أوامره، ومطالبته بأن يراجع «محمد علي» أولا، وهو ما رآه «إبراهيم باشا» عصيانا وتطاولا ومحاولة من أحد عمال أبيه للمساواة معه رأسا برأس.