على نسق الكتب الطريفة التي تخصص الأميركي «بيل برايسون» في التقاط مادتها مما أهمله التاريخ أو تناساه، يأتي كتاب «تاريخ بلا تفاصيل مضجرة» للكاتب البريطاني «إيان كروفتون» محمّلاً بمئات القصص الموجزة جدا، والغريبة غالبا، والمتناثرة على امتداد الزمن منذ العصور السحيقة حتى عصرنا الراهن.

Ad

والجميل في هذا الكتاب الصادر عن دار «كويركاس»، هو أنّ مؤلفه المتخصص في التاريخ قد استطاع الخروج بمادته المختارة بعيداً عما يطبع أسلوب المؤرخين، في العادة، من جهامة وثقل ظل، ليصبغه بروح فكاهة عالية تغلف قسوة الأحداث برقائق السخرية.

تضمّن الكتاب سبعة أقسام، تبدأ مادتها من قبل خمسة وسبعين مليون عام، وتنتهي في عام 2007، مارة على أحداث منوعة بعضها مختزل في ثلاثة أسطر، وبعضها الآخر ممتد على مساحة نصف صفحة، لكن ليس ثمة حكاية في الكتاب كله قد استطالت لتملأ صفحة كاملة. وهذا بحد ذاته مؤشر جهد عظيم بالنسبة للمؤرخ المولع بالتفاصيل، خاصة إذا كان هذا المؤرخ بريطانياً.

من غمرة هذه القصص التاريخية، نلتقط هنا، ثلاثا قاسمها المشترك هو «مراسيم» الاستبداد الهابطة من برج الحاكم على رؤوس العباد، والملحقة من جديد إلى رأس الحاكم المستبد نفسه، في دورة تبدأ بالعذاب وتنتهي بالسخرية.

أولى هذه الحكايات تأتينا من العام السبعين بعد الميلاد... ففي ذلك العام، فرض الإمبراطور الروماني (فسباسيان) ضريبة على المراحيض العمومية... وقد شعر ابنه (تيتوس) بالهلع إزاء هذا الإجراء المتسم بالوضاعة، لكن أباه الذي لم يداخله مثل هذا الشعور، ملأ قبضته بالقطع النقدية، ووضعها تحت أنف ولده قائلا: «النقود ليس لها رائحة»!

غير أن ما لم يخطر على بال الإمبراطور، هو أن (المَبْوَلات) التي كانت تنتشر بكثافة في جميع زوايا المدن والضواحي الفرنسية، صارت تعرف بين الناس باسم (الفسباسيانيات)... تكريما للإمبراطور!

ولسوء حظ الإمبراطور، كانت لتلك (الفسباسيانيات) رائحة حادة ومقرفة، وهذا يعني أن الناس، لقاء الضرائب المادية عديمة الرائحة التي استوفاها الإمبراطور منهم، قد فرضوا عليه ضريبة معنوية مخجلة وكريهة الرائحة، والأدهى أنها لم تقتصر على عهده المجيد وحده، بل حملته معها على مر الأزمان حتى وصلت به إلى زماننا هذا. ياله من انتقام مريع ومؤبد!

الحكاية الثانية من زمن آخر أكثر تقدما وإشراقا، وهي تحدثنا عن مستبد من نواحينا هو خليفة مصر (الحاكم بأمر الله) الذي ينبّهنا، على نحو عجيب، إلى أن خميرة طالبان وأشباهها هي ليست بنت اليوم: في عام 1021 للميلاد، توفي الحاكم بأمر الله، الخليفة الذي كانت تصرفاته الشاذة قد أهلته بجدارة لحمل لقب (الحاكم المجنون).

من مآثر ذلك الحاكم أنه أصدر قرارات صارمة منع الناس بموجبها من أكل العنب، ونبات الرشاد (وهو من الخضروات المنتمية إلى فصيلة البقدونس)! كما أنه سبق طالبان بأكثر من ألف سنة في إنجازه الثوري العظيم بتحريم لعب الشطرنج! ولانزعاجه من نباح الكلاب، أمر بقتل جميع كلاب البلد.

لكن أعجب مراسيمه هو ذلك المرسوم الذي فرض فيه على سكان القاهرة أن يعملوا ليلا ويناموا نهارا!

ولأنه كان كارها للمرأة بالسليقة، فقد منع خروج النساء من بيوتهن، ومنع صناعة الأحذية النسائية، وفي واحدة من تجلياته في هذا الشأن، عاقب مجموعة من النساء المثيرات للضجة، بسلقهن في الماء المغلي حتى الموت في حمام عمومي!

وفي النهاية فإن عمره وعهده انقصفا على يد امرأة هي شقيقته (ست الملك) التي دبرت أمر اختفائه من الوجود، حيث عثر على حماره ملطخا بالدم بالقرب من بئر عند سفح المقطّم. تلك هي خلاصة ذلك المخلوق، لكن الداهية الأعظم تمثلت بعد محقه، إذ أعلن بعض الطوائف أنه لم يمت، ولكن الله اختاره، وأنه سيعود قبل يوم القيامة باعتباره (المهدي)!

ومن يدري، لعلنا إذا فتشنا في قمامة التاريخ المهمل فسنعثر على من رأى صورته على وجه القمر. ما المانع؟ أيكون أوغاد زماننا أفضل منه؟!

القصة الثالثة من العام 1380، وبطلها (هونغ وو) أول إمبراطور صيني من سلالة (مينغ). ففي ذلك العام أصدر هذا الإمبراطور مرسوما يقضي بألا يوجه إليه النقد من قبل مستشاريه، وذلك تحت طائلة الجلد بعِصيّ البامبو حتى الموت.

لكنّ هناك خبرا لاحقا يقول إن طالب علم من أتباع كونفوشيوس، كان مصمما جدا على الإشارة إلى أخطاء وخطايا (هونغ وو) السياسية، ولذلك فإنه جاء إلى البلاط الإمبراطوري حاملا (تابوته)!

ولدى مثوله أمام الإمبراطور، وجه إليه الانتقاد بشكل واضح ومباشر ومجرد من أدنى ملطفات الكلام، وما إن انتهى من كلامه حتى سارع إلى دخول التابوت، منتظرا أن يتم إعدامه على الفور.

لكن الإمبراطور الذي بدا متأثراً تماما بشجاعة الرجل، لم يملك إلا أن يعفو عنه! نعم. ذلك ما وجب أن يحدث، فلقد هيأ الرجل الجسور لإمبراطوره هدية ضخمة لا ينبغي جحودها بإعدامه... ذلك لأننا في المسافة القصيرة جدا بين الجرأة على قول الحقيقة، وبين القدرة على العفو، نرى بكل وضوح أن الفائز الأكبر هو الإمبراطور الذي عثر فجأة على (رجل) حقيقي بين ملايين (الأشباه) في إمبراطوريته!

إنها أمثولة رائعة عابرة للعصور، لكل حاكم مثاله، ولكل محكوم خانع.

وأقول إنها أمثولة، غير أنني لست واهماً إلى حد الاعتقاد بأنّها قابلة للامتثال في عالمنا الحر السعيد هذا، وذلك لأن التاريخ نفسه، بتفاصيله المضجرة وغير المضجرة، طالما جلس على صخرة الزمن ناتفاً لحيته الثلجية وهو يدمدم: «ما أكثر العبر... وما أقل الاعتبار».

أما إذا توقف التاريخ المسكين عند ألفيتنا الثالثة، فإنه سيكف عن الدمدمة بكل تأكيد، لأنّ روعة تفاهتنا ستبدو له أصغر من أي عَبرة أو عِبرة، وأعظم من أيّ عبارة... وهذا ما سوف نراه لاحقاً.

* شاعر عراقي- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.