هموم يمنية

نشر في 28-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 28-09-2008 | 00:00
 ياسر عبد العزيز أبدى عدد من الأصدقاء اليمنيين ما يمكن اعتباره «عدم رضا» عن مقالي السابق «سيناريوهان لليمن» («الجريدة»، الأحد 21 سبتمبر الجاري)، وهو أمر كان يمكنني رصده أيضاً من خلال بعض التعليقات التي وردت على المقال نفسه، حين أعيد نشره في عدد من المواقع الإلكترونية اليمنية.

وكنت دائماً ما أداعب أصدقائي اليمنيين بالقول إنهم أكبر دليل على عدم صحة القاعدة الفلسفية التي تقول إن «مجموع الكل أكبر من حاصل جمع أجزائه»؛ إذ ترسخ لديّ اعتقاد دائم بأن اليمنيين كأفراد يمثلون كتلة حيوية ضخمة ونشطة، لكن نتاجهم الجمعي أقل بكثير مما يجب أن يكون.

كنت أقول إن ثمة عادات قبيحة يمكنك أن تلحظها بوضوح في أي زيارة لهذا البلد الجميل؛ وأنه في ذلك مثله مثل سائر البلدان، يتمتع بالخير والإيجابي من الأشياء والعادات، ويعاني السيء والقبيح منها.

فيما يتعلق بمحاسن اليمن ومباهجه، فلن تكفي مساحة مقال أو صفحات صحيفة أو عشرات الكتب لتعدادها وحصرها كلها، خصوصا أنه «اليمن السعيد»، و«أصل العرب»، و«منبع الحضارة»، التي شيدت من المعاني والمثل والعبر بأكثر ما شادت من معمار وآثر على عراقته وجماله وحسن إبداعه.

يكفي أن اليمن يكاد ينفرد بين دولنا العربية بما يمكن اعتباره «القدرة على تذويب الغريب واستيعابه»، وهو الأمر الذي يمكنك أن تلحظه فوراً حين يتم التعاطي معك بصفتك عربياً وكفى؛ إذ يكفي أن تكون عربياً فعلاً لتتمتع بكونك مواطناً يمنياً، بدءاً من الدخول من المطار من دون تأشيرة، مروراً بالتعامل معك بالأسعار الاعتيادية التي يعامل بها المواطنون، وليس انتهاء بالانفتاح عليك كأخ على ود مقيم، وليس كمشروع صديق تحول جنسيته واغترابه دون سبر أغواره بما يستلزم إخضاعه للاختبار.

أما مربط الفرس في هذا القصد فليس سوى بعض القبيح من العادات، التي يراها المحب في أخيه فلا يسكت عنها؛ ليس لأنه منزه عن مثلها أو ما هو أقبح منها، وليس لأنه في وضع الناقد أو الحكيم، ولكن لأن صديقك من صدقك، ولأن المتنبي لم ير في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام.

القات يأتي على رأس تلك العادات القبيحة، ولطالما تحدث الناس في اليمن وخارجه عن القات ومشكلته وتأثيره السلبي في حياة اليمنيين، معددين التأثيرات الاقتصادية والسلبيات الصحية والتداعيات الاجتماعية له، وواصفين الأثر السلبي لهذا المخدر، المصنف ضمن الممنوعات دولياً، على صورة البلد ومواطنها، لكن أحداً لم يقل كل ما يجب أن يقال في هذا الصدد، فلم يذكر أحد أن «للقات دولة» في اليمن، وأن «الدولة للقات» في هذا البلد العزيز.

يندهش الخبراء والباحثون والسياسيون الذين لم يخبروا هذا البلد ولم يهتموا ببحث التطورات الحاصلة فيه في السنوات الأخيرة حين تخبرهم أن حرية الصحافة في اليمن تفوق نظيراتها في 90 في المئة من الدول العربية، وأن المجتمع وجد في الأحزاب والصحافة التقليدية والإلكترونية مجالاً لأعلى درجات النقد السياسي والاجتماعي، بشكل يتعدى الخطوط الحمراء في أحيان عديدة، وبصورة تدعو إلى تقدير السلطة لسعة صدرها من جهة، والإعجاب بشجاعة الأطراف المبادرة بالنقد في أحيان أخرى. لكنك ستدهش أيضاً حين تجد تواطؤاً حيال القات؛ فهو المشروع الوحيد الذي يجمع المعارضة بالسلطة، والمتدينين بالعلمانيين، والرجال بالنساء، والحضرميين بالصنعانيين، وهو الطقس الوحيد الذي كان محل اتفاق المتحاربين في حرب صيف عام 1994 بين الشماليين والجنوبيين.

«قات الدولة»؛ تستخدمه ويسيطر عليها، و«دولة للقات» تعتبره الطقس الوطني الأول والجامع للشأن العام والناظم للود والجفاء والتحالف والتصادم والاستراتيجي والتكتيكي والحرب والسلام والوحدة والانفصال.

إذا بدأ اليمن بمحاولة التحرر من ربقة القات، فسيجد الفرصة والعزم اللازمين للتحرر من عدد من العادات الضارة الأخرى تالياً.

ومن تلك العادات والمظاهر الفساد؛ فلا يضاهيه في اليمن سوى ما يحدث في مصر؛ إذ يتحول من نشاط طارئ ومؤثر في الحالات المتصلة بالبيروقراطية والسياسة والنشاط الإنتاجي إلى قوام الدولة وعامودها الرئيس؛ بحيث يمكنك أن تتأكد من إمكان انهيار الدولة وجهازها الإداري إذا تم تقويضه.

البيروقراطية؛ نسخة يمنية مشوهة عن أصل مصري أكثر تشويهاً، تجعل حياتك سلسلة من الأوراق، التي لا يرجى منها سوى التأكيد أن ثمة موظفاً يعمل هنا، وأنه ليس لديه أي عمل ذي قيمة، ولندلل على وجوده، ونحلل القروش القليلة التي يتقاضاها، يجب أن نحصل على توقيعه على أكبر عدد ممكن من الأوراق.

القبلية؛ فليت اليمنيون يقبضون على الإيجابي في زمن القبيلة، ويتخلون عن السلبي والمفتت والرجعي وغير العقلاني منه. مشكلة القبلية الرئيسة أنها تخصم فوراً من رصيد الدولة، وتفتئت عليها، وتنال من هيبتها، وتقلل قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الرئيسة، التي يجب أن تركز على تحقيق الوحدة والمواطنة وتكريس الديمقراطية وتداول السلطة الحقيقي، ليخرج اليمن من عثرته الراهنة، ويتحقق له وللعرب السيناريو الإيجابي، الذي يحوله طاقة خير وأمل، وعمقاً جيوستراتيجياً لجيرانه الأقربين وأمته العربية والإسلامية.

* كاتب مصري

back to top