بين صعود وهبوط قضى الأمير زين الدين يحيى بن عبد الرازق القبطي (أو الأرمني) سنوات عمره الثمانين معاصراً لأربعة من سلاطين المماليك الجراكسة الذين استخدموه في خدمتهم حتى وافاه الأجل وهو حبيس بالقلعة لدى السلطان الأشرف قايتباي في 28 ربيع الأول عام 874 هـ(1469م).

Ad

منذ البداية اختار زين الدين يحيى أقصر الطرق وأكثرها التواء وأبعدها عن الاستقامة لينضم إلى صفوة الحكم المدنية في دولة المماليك، فكان يبذل”الرشاوي” و”البراطيل” لأولي الأمر من أجل حيازة المناصب الإدارية مستفيدا من فساد الإدارة المملوكية التي صارت الوظائف بها تولى بالرشوة، لا فرق في ذلك بين الوظائف الحربية أو الديوانية ولا حتى القضائية.

ولذا فقد أراد هذا الطموح أن يختصر الوقت ويوفر الجهد في زمن اختفت فيه الكفاءة كشرط لتولي الوظائف، ولما كان فقيراً معدماً ، فقد لجأ زين الدين يحيى إلى الاقتراض ونجح بعد سعي كبير في أن يلي أول وظيفة تقربه من النخبة الحاكمة، وكان ذلك عام 842 هـ، عندما استقر في وظيفة "ناظر الاسطبل السلطاني” مقابل مال بذله.

وقبل أن يتمكن ابن عبد الرازق من اختلاس بعض المال من عمله المتصل بشراء الأعلاف لدواب السلطان ليسدد ما اقترضه من الأموال لرشوة أولي الأمر، فوجئ بآخر قد دفع رشوة ليتولى وظيفته.

وهكذا بعد أشهر معدودة عزل "زين الدين يحيى بن عبد الرازق الأشقر” واستقر عوضاً عنه شمس الدين أبو المنصور نصر الله المعروف بوزة ناظراً للأسطبل السلطاني وقد علق المؤرخ ابن تغري بردي على تلك الواقعة بقوله” وأي فخر أو سابق رئاسة لمن يعزل بهذا الوزة عن وظيفة” ويبدو أن "الوزة” كان محقراً مرذولاً .. ولكنها الرشوة مرة أخرى.

ودخل زين الدين اللعبة بكل ثقله، وصار يقترض ليرشو” وكان كثيرا ما يلي الوظائف بالبذل ثم يعزل عنها بسرعة حتى تجمد عليه حمل من الديون.

وبسبب منافسة اثنين من الخصوم له ظل "زين الدين المذكور في حياة من الفقر والذل والإفلاس إلى أن تولى الأمير قيزطوغان الأستادارية فاختار زين الدين هذا لنظر ديوان المفرد ، وضرب "عبد العظيم وأهانه ".

ركن الأستادار إلى زين الدين فصار المعول عليه بديوان المفرد، واستفحل أمره وقضى ديونه المتراكمة وفي ذلك كان الخطر، كل الخطر، على قيزطوغان، فما أن اطمأن زين الدين حتى تاقت نفسه إلى وظيفة الأستادارية.

في السابع من رجب سنة 845 هـ عزل قيز طوغان من الأستادارية ومعه زين الدين ناظر ديوان المفرد، ولكن الداهية عاد إلى منصبه بعد تسعة أيام فقط، وما هي إلا أشهر قليلة حتى عزل ابن الكويز من الأستادارية وتولاها زين الدين يحيى في 26 ربيع الآخر عام 846 هـ.

لبس زين الدين خلعة الأستادارية ونعت بالأمير "لكنه لم يتزين بزي الجند، بل استمر على لبسه أولاً، العمامة والفرجية، فصار في الوظيفة غير لائق، كونه استادارا وهو بزي الكتبة وأميراً ولا يعرف باللغة التركية، ورئيسا وليس فيه شيم الرئاسة، وكانت ولايته وسعادته غلطة من غلطات الدهر وذلك لفقد الأماثل ".

وبعد سبع سنوات من العسف والظلم قضاها زين الدين الأستادار، " أنعم عليه السلطان جقمق عام 853 هـ بالتكلم في حسبة القاهرة فباشرها زين من غير أن يلبس لها خلعة المحتسب، وقد حل في تلك الوظيفة عوضاً عن علي بن اسكندر أول وأشهر من ولي الحسبة بالبذل والبرطلة ".

لم يهتز لزين الدين جفن عند وفاة السلطان، فهو قد أعد عدته منذ وقت بعيد لتلك اللحظة وصدق توقعه وتولى المنصور عثمان بن السلطان جقمق وهوبعد في الثامنة عشرة من عمره، وفي ذلك كان يحيى الاستادار حصيفاً وقارئاً واعياً بالصراعات المملوكية على منصب السلطان.

فقد جرت عادة المماليك إذا ما اختلفوا بينهم على تولية منصب السلطنة الشاغر لواحد من الأقوياء المتنازعين على العرش، أن يحملوا إلى كرسي الحكم ابن السلطان المتوفي حتى ولو كان طفلاً ريثما يتم حسم الخلاف بين أقوى المرشحين للسلطنة.

فمنذ السنوات الأخيرة من حكم جقمق وزين الدين أخذ في التقرب إلى الملك المنصور وصار أستادارة واختص به ومهد أموره معه، فلما تسلطن ظن أنه سيكون من أمره في دولته أضعاف ما كان له في دولة والده الملك الظاهر جقمق.

ويظهر أن الأستادار قد تعامل مع السلطان الجديد بوصفه طفلاً يحتاج إلى معاونته في إدارة شؤون المماليك السلطانية حيث كانت وظيفة الأستادارية معنية بتوزيع الجوامك والعليق والكسوة وغيرها من الرواتب السلطانية الشهرية على مستحقيها من المماليك السلطانية.وفي ذلك، ذلك فقط، لم يكن حصيفاً .

ففى نهاية شهر المحرم سنة 857 هـ طلب السلطان الاجتماع مع مباشري الدولة وكبار الأمراء لتدبير الأموال اللازمة لنفقة المماليك، وكان الأمل يحدوه في أن يقوم أستادارة بتدارك أمر النفقة التي كان تأخرها يهدد بثورة المماليك، ضد سلطانهم، وفوجئ المنصور عثمان بزين الدين يحيى يمتنع وسط هذا الجمع عن أداء ما قرر عليه من الذهب برسم نفقة المماليك "وأوسع وصمم على مقالته” ووجدها أعداء زين الدين من الأمراء والمباشرين فرصة سانحة فجادلوا الاستادار وحملوا عليه حملة شنعاء واتهموه بأنه يريد زوال المملكة حتى تغير السلطان عليه بسبب ذلك "فأمر بمسكه وعزله وتوليه الأمير جانبك الظاهري نائب جدة للاستادارية”.

المهم أن السلطان لم يكتف بالاستغناء عن خدمات الزيني يحيى الأستادار بل أراد أن يستصفي أمواله التي جمعها من الاحتكار، فأمر في نفس اليوم بتسليمه للأمير جانبك الأستادار الجديد ليقوم بمعاقبته "فنزل به من القلعة على أقبح وجه فنعوذ بالله من زوال النعم وما ربك بظلام للعبيد وازدحم الناس تحت القلعة لرؤيته، فما منهم إلا شامت أو متهكم ". ولكن الأستادار الجديد امتنع عن عقوبته رحمة به لا خوفاً عليه وأعاده إلى القلعة بعد يومين، مؤكداً للسلطان أنه سوف يستقصي عن بقية ذخائره حيث أقر الزيني يحيى بأن لديه مائة ألف دينار فقط وسلمها للأمير جانبك.

إلا أن مباشري الدولة والأمراء أوعزوا إلى السلطان أن يشرع في تعذيبه ليبوح بمكنون أمواله، وبالفعل طالب السلطان أستادارة السابق بأداء خمسمائة ألف دينار أخرى للدولة ، وسلمه إلى الخازندار فيروز ليعاقب بالعصى والمعاصير( لعصر الركب) وضرب على سائر أعضائه، واجتهد الناصري محمد بن أبي الفرج في عقوبته لخصومة قديمة بينهما، ولكن المنكوب أظهر جلداً شديداً ولم يقر بشئ آخر .

وبعد ثلاثة عشر يوما استرد فيها الزيني يحيى بعض قوته قام جانبك الأستادار بمعاقبته وتعذيبه بقسوة أكبر”وهو لا يظهر ماله من الذخائر غير ما أخذ منه وهو دون المائة ألف دينار” .

وفي النهاية اقتنع السلطان بأن زين الدين لا يمتلك أكثر مما أقر به فعقد مجلساً في اليوم التالي ضم القضاة الأربعة لبحث مصير أملاك زين الدين الموقوفة عليه وعلى جوامعه ومساجده وتقرر بيع هذه الأوقاف والاستيلاء على أثمانها لخزينة السلطان.