من الطبيعي أن تركز أغلبية التحليلات حول الانتخابات الرئاسية الجارية في الولايات المتحدة على كيفية ومدى تأثير نتائجها علينا في الشرق الأوسط، وإن كان هناك تغيّر ما سيحدث بمعية الرئيس الجديد. ومن المتوقع أيضا ألا تتغير السياسة الأميركية، وتحديداً في ما يتعلق بدعمها المطلق لإسرائيل، وهي الوصمة المخجلة التي تصر عليها الحكومة الأميركية، إلا أن ما يعنينا هنا هو محاولة فهم التغيرات الاجتماعية على المستوى الداخلي، وهي مؤشرات بحاجة إلى الرصد لأقوى دولة في العالم.

Ad

فالانتخابات الأميركية هذه المرة قد صنعت تاريخا جديداً نأمل أن ينعكس مستقبلا على سياسة خارجية أكثر اتزاناً وأكثر عدالة في العالم، فصورة الولايات المتحدة عالميا في أدنى مستوياتها، والرئيس جورج بوش تحديداً في أدنى مستوى لشعبيته (28%).

إن رحلة أوباما إلى البيت الأبيض لم تبدأ بهزيمته لهيلاري كلينتون وفوزه كمرشح للحزب الديمقراطي للرئاسة، فهذه ليست إلا نتيجة ومؤشراً لتحولات في القيم والمعايير الاجتماعية، كما أن رحلته إلى البيت الأبيض لم تبدأ عندما قرر حسين أوباما والد باراك، ذلك الكيني المسلم الهجرة إلى أميركا، ولا أظنه كان يتخيل في يوم من الأيام حين قرر الهجرة بأن ابنه سيصبح قاب قوسين أو أدنى من الجلوس على المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، بل أجدها بدأت في مدينة مونتغمري في ولاية ألاباما حين قررت امرأة سوداء الاحتجاج على منعها من الجلوس في مقاعد البيض في حافلة نقل الركاب، كان القانون العنصري حينها يخصص المقاعد الخلفية للسود والأمامية للبيض، ومن دون استئذان يذكر من العقلية العنصرية المهيمنة آنذاك تحولت هذه الحادثة البسيطة من حيث الشكل إلى حركة احتجاج كبرى فرضت نفسها على التقاليد السائدة وثوابت الأمة الأميركية آنذاك، وربما يقول قائل إنها كانت قد بدأت مع إعلان الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن تحرير العبيد قبل ذلك بكثير.

وهكذا تحولت حادثة باص مونتغمري إلى قضية رمزية وتحركت باصات رمزية تجوب الولايات تضم السود والبيض، وشيئاً فشيئاً ظهرت قيادات تاريخية فذة قادت حركة الحقوق المدنية على شاكلة مارتن لوثر كنغ. كان التيار جارفاً إلى درجة أنه حتى مع اغتيال مارتن لوثر كنغ وهو في قمة عطائه لم تكن لتوقفها، وظهرت على إثر ذلك تشريعات «التمييز الإيجابي» في الجامعات، والأعمال وغيرها، وتفاعل الإعلام تفاعلاً ملحوظاً، حيث تغيرت اللغة فاختفت الكلمات المهينة للسود، وأصبحت الجرائم في الأفلام لا تنسب فقط للسود، فلم يعد «الآخر» بالضرورة أسود اللون، ولم يعد دور السود مقصورا فقط على الموسيقى والرياضة، حيث بدأوا يظهرون في التعليم والأعمال والسياسة وحتى الثقافة إلى أن حصلت مؤلفة أميركية سوداء على جائزة نوبل في الآداب.

هكذا إذن، وعلى قطار التحولات الاجتماعية وصل أوباما إلى هذا الموقع الذي وصل إليه. جاء بعد أن مهّد آخرون كثر الطريق له، بعضهم معروفون، وبعضهم غير معروفين، فكانت قدراته الخطابية المتميزة، وإمكاناته التنظيمية، ونقاط ضعف خصومه وتمكنه من اصطياد اللحظة المناسبة هي الرافعة الأخيرة لتفوقه الانتخابي.

يبدو أنه جاء في التوقيت المناسب بالضبط، ليس كسياسي أسود ولكن كسياسي أميركي، وهكذا كان بشخصه المؤشر الملحوظ على صناعة التاريخ.

أما كيف فاز من حيث المعالجة الانتخابية التقنية على هيلاري، وهل سيفوز على جون ماكين في الانتخابات العامة، فلذلك حديثٌ آخر.