حيثيات الوساطة التركية بين واشنطن وطهران!
ليست تركيا الوسيط الأول ولن تكون الأخير بين واشنطن وطهران، التي لطالما استدرجت الأولى إلى مباحثات تمنت أن ترقى بها إلى مفاوضات جدية وعميقة سيتبعها تحول باتجاه الضفة الأخرى، فيما كانت الثانية تريدها ولاتزال مجرد جس نبض لمدى جدية الأولى في التحول إلى ضفتها هي.غير أن ما يحمله الرئيس التركي غول من أفكار استمع إليها لتوّه من رئيسة الدبلوماسية الأميركية الجديدة في إستنبول، وهي المتحفزة بطلب من رئيسها باراك أوباما لاستحضار إيران إلى المدار الأفغاني، قد يجعل من مهمة الرئيس التركي في طهران متفاوتة هذه المرة عن الوساطات السابقة.
لقد سبق لطهران أن طلبت من واشنطن «اختبار نوايا» انطلاقاًَ من أفغانستان كما جاء في مقالة نشرها وزير الخارجية الإيراني في حينه كمال خرازي في صحيفة الواشنطن بوست، لكن ذلك كان في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ووقتها لم تكن أحداث سبتمبر قد وقعت ولم تكن طموحات الإمبراطوريين الأميركيين من نوع المحافظين الجدد قد تم تجريبها لا في أفغانستان ولا في العراق.وقتها لم تلتقط الإدارة الأميركية الديمقراطية جوهر الرسالة جيداً بالرغم من كل ما كان يقال عن ذكائها وحنكتها، وعندما التقطتها بالإجمال في أيامها الأخيرة وقدمت أولبرايت اعتذارها الشهير من طهران بسبب تورط بلدها في الانقلاب على حكومة مصدق الوطنية في خمسينيات القرن الماضي كما هو معروف للجميع، كانت المعادلة الإيرانية الداخلية غير قادرة على توظيف ذلك الاعتذار للانتقال بالوضع من مستوى المباحثات التي لم تنقطع يوما إلى مستوى المفاوضات التي تطمح اليها واشنطن!اليوم يكاد يتكرر السيناريو نفسه، ولكن هذه المرة بالمعكوس، فمن يطلب «اختبار نوايا» انطلاقا من أفغانستان هذه المرة هم ديمقراطيو واشنطن المطرزون البتة باللون الأسود المهيوب، بينما المتلقين فهم الإيرانيون من نوع المحافظين الجدد الطامحين ليس فقط بدور إقليمي لدولة عظمى، والذي باتوا يعتبرونه تحصيل حاصل بعد كل ما مر على الإقليم من تحولات، بل يزيدون عليه بـ«المشاركة بإدارة شؤون العالم» الجديد بعد كل التخريب الذي تعرض له العالم القديم على يد سلف الإدارة الديمقراطية الحالية. صحيح أن الرئيس غول يزور طهران اليوم في إطار مشاركته في قمة عادية لدول مجلس التعاون الاقتصادي المعروفة بمنظمة «الايكو»، التي تضم بالإضافة إلى بلده وإيران كلا من باكستان وأذربايجان وطاجيكستان وأفغانستان، إلا أن انتقال القيادة في هذه القمة من علييف إلى أحمدي نجاد، وحاجة الأميركيين الماسة في سفر خروجهم من العراق إلى سفر العبور الذي يستعدون له إلى أفغانستان، والدعوة التي يفكرون أن يرسلوها إلى القيادة الإيرانية لحضور مؤتمر روما حول أفغانستان، بالإضافة إلى مجمل التحولات الإقليمية المتسارعة في المجال الحيوي المشترك لما بات يعرف بالمحور السوري الإيراني، بقدر ما يجعل الوساطة التركية أساسية ومهمة واستثنائية، بقدر ما يجعل الموقف الإيراني متفوقا ويملك اليد العليا في أي مباحثات محتملة بين واشنطن وطهران انطلاقا من الموقع الأفغاني .لكن هذا ليس الوجه الوحيد للمسألة، إذ إن أي تقدير خاطئ للموقف من الجانب الإيراني أو أي محاسبة خاطئة لموازين القوى، قد تجعله يخطئ الهدف من المناورة المتوقعة، فتجعله يكرر خطأ الإدارة الأميركية السابقة في التقاط اللحظة التاريخية متأخرا.وإذا كان بإمكان تركيا أن تمسك العصا من الوسط في هذا الحراك بحكم مجمل العوامل المحيطة والمؤثرة في تكوين موقعها وموقفها، فإن الأمر لا ينطبق بالضرورة على طهران، فضلا عن كونه مستحيلا بالنسبة لواشنطن!وإذا كان المطلوب من طهران ألا تخطئ الحسابات حتى لا تضيع فرصة قد تكون مفيدة وثمينة لها، فإن على واشنطن ألا ترتكب حماقة تكرار مواقف الإدارة الأميركية الراحلة سواء بالنسبة إلى العراق أو أفغانستان، ناهيك عن النظر إلى طهران بعيون إسرائيلية، ذلك أن الخطأ هذه المرة قد يتحول إلى خطيئة تفضي إلى نتائج وخيمة على الوجود الأميركي في المنطقة كلها.* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني